منذ فترة والحرب الدائرة في مالي تحتلّ مكانة بارزة في الصحافة الفرنسية، وهي حربٌ باتت من التعقيد بحيث لا تبدو الصورة واضحة تماماً لجهة الأطراف الدولية المشاركة فيها. ففي ما وراء أطراف الصراع الظاهرة في الصورة، يلوح طرفٌ من صراع الدول الكبرى على القارة الأفريقية، وبخاصة فرنسا والولايات المتّحدة. في ما يلي جانبٌ من صورة هذا الصراع، كما ارتسمت في عدد من الصحف الفرنسية.
ليس لدى فرنسا والولايات المتّحدة مخطّطات استراتيجية متناقضة، بل بينهما تنافس مهما اشتدّ لا يصل إلى حدّ التوتّر أو التهديد. لكن التنافس الفرنسي/ الأميركي واضح لا في البلدان الأفريقية فحسب، بل في مختلف مجالات السياسة الدولية: في أوروبا وفي حلف النيتو، في بلدان أوروبا الشرقية (الكتلة السوفياتية سابقاً) والشرق الأوسط، في الأمم المتّحدة كما في أميركا الجنوبية، وفي الاستثمارات في القارة الآسيوية كما في قضايا الردع النووي.
في نهاية الثمانينيّات دخلت معظم البلدان الأفريقية، بعد حصولها على استقلالها الوطني، في عمليات إصلاح اقتصادي وسياسي كانت بمثابة مرحلة انتقالية غير ممكنة من دون الحصول على مساعدات خارجية. وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران أوّل من وضع التلازم بين تقديم هذه المساعدات والدخول في عملية الإصلاح الديمقراطي، وذلك في القمة الفرنكوفريقية التي انعقدت في مدينة لابول الفرنسية. وبالفعل، قدّمت فرنسا القسم الأعظم من المساعدات الاقتصادية للبلدان الأفريقية بالنظر إلى العلاقات السياسية والثقافية التي تربطها بهذه البلدان التي كانت مستعمرات لها في السابق. تلتها بريطانيا التي خصّصت مساعدات اقتصادية للدول الأفريقية التي "تديرها حكومات صالحة" (كما ورد في شروط الحصول على المساعدات البريطانية المقدمة للدول الأفريقية)، ثم الاتّحاد الأوروبي الذي اشترط هو الآخر المساعدات الاقتصادية بتقليص عديد القوات العسكرية في البلد الأفريقي الراغب في الحصول عليها. أما الولايات المتّحدة التي جاءت متأخرة فقد اشترطت أيضاً تقديم تلك المساعدات بشروط سياسية أو عسكرية.
فرنسا هي إحدى الدول الكبرى الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، لكنها سرعان ما غدت دولة متوسطة بالقياس إلى الدول الأخرى كالصين والولايات المتّحدة والاتّحاد الروسي. فعلى الرغم من أن ضعفَ الاستعمار البلجيكي وتسامح الولايات المتّحدة خلال فترة من الزمن، شجّعا فرنسا على استعادة نفوذها في تلك المنطقة من رواندا وبوروندي وزائير الشاسعة والغنيّة بالمواد الأولية النادرة في العالم، وعلى التدخل العسكري في العام 1978 لإنقاذ نظام موبوتو في الكونغو، مُنِيَت فرنسا بهزيمة قاسية في رواندا على يد قبائل "توتسي" التي وصلت إلى الحكم بدعم من أوغاندا وتشجيع من بريطانيا. وما لبث نظام موبوتو نفسه أن انهار في الكونغو، مدشِّناً انهيار النفوذ الفرنسي في أفريقيا.
وعلى الرغم من أنه ما زال لفرنسا 9 آلاف عسكري في شاطئ العاج والسنغال والغابون وأفريقيا الوسطى وتشاد وجيبوتي، فإنها لم تستطِع الاحتفاظ زمناً طويلاً بسيطرتها على الموارد الأولية لمستعمراتها السابقة، إلا من خلال اعتمادها نظاماً نصف استعماري يقوم سياسياً على رقابة شديدة على أجهزة الدولة من خلال العلاقات الشخصية الوثيقة بأصحاب المناصب الرفيعة في البلاد، واقتصادياً على الإبقاء على نظام "منطقة الفرنك الفرنسي الأفريقي" (CFA). وكان ذلك يقتضي مساعدة الأنظمة القائمة وحمايتها، حتى ولو كانت استبدادية، من أجل ضمان ولائها لفرنسا في مواجهة المنافسة الأميركية واليابانية والألمانية.. ومؤخَّراً الصينية.
عدم تغيّر السياسة الأفريقية لفرنسا أضعف خزانة الدولة، وأفاد كثيراً المجموعات الاقتصادية الكبيرة وأصحاب المصالح الاستثمارية الخاصة الذين دأبوا على نهب أفريقيا. وكانت السياسة الفرنسية، الرسمية والخاصة، في أفريقيا، تقوم في معظمها على التواطؤ والصفقات السرّية والرشوة والعلاقات الشخصية ولوبيات الضغط.. ولذا، فقد كانت عهود الرؤساء الفرنسيّين الثلاثة الأخيرين (ميتران وشيراك وساركوزي) حافلة بفضائح من هذا النوع.
طيلة الحرب الباردة كانت فرنسا تلعب دور شرطي الأمن في جزء كبير من القارة الأفريقية، وكان ذلك يخدم المصالح الأميركية. لكن مع انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتّحاد السوفياتي عاد الصراع بين الإمبرياليات التقليدية ليبرز من جديد، بما في ذلك الصراع على أفريقيا. ولم يعد بوُسع الولايات المتّحدة أن تتسامح مع فرنسا في أن تكون أفريقيا منطقة نفوذ خالصة لها، بعدما اشتدّ التنافس الاقتصادي بين الصين والولايات المتّحدة واحتدم التنافس الدولي على النفط، بحيث بادرت الولايات المتّحدة إلى بناء مواقع عسكرية لها في القارة الأفريقية لمنع تصاعد النفوذ الصيني فيها، ومن أجل ضمان وصول النفط إلى الولايات المتّحدة عبر خليج غينيا، والتخفيف من حدّة الحاجة الأميركية إلى نفط الشرق الأوسط، متَّخذةً من الحرب على الإرهاب في القرن الأفريقي الذي بات بؤرة لتجمّع الميليشيات المرتبطة بالقاعدة، وفي المغرب العربي الذي بات مرتعاً للقاعدة منذ العام 2006، ذريعةً لتبرير مشروعها الرامي إلى الهيمنة على أفريقيا. ودفعتها تلك الحوافز مجتمعةً إلى العمل على بناء "شراكة لمحاربة الإرهاب" مع البلدان المعنيّة بالتهديد المتمثّل بوجود "القاعدة الإسلامية في المغرب العربي". وتقوم هذه الشراكة على إنشاء إطار عسكري أميركي في كلّ بلد من تلك البلدان لمساعدة جيشه الوطني على صدّ خطر إرهاب "القاعدة" عنه.
في العام 2008 قرّرت وزارة الدفاع الأميركية إنشاء قوة موحَّدة من أجل التدخل في أفريقيا باسم "USAFRICOM" (United States Africa Command) أو "أفريكوم" مهمّتها تنسيق جميع الأنشطة العسكرية والأمنية الأميركية في القارة. وقبل ذلك العام كانت تلك الأنشطة موزَّعة بين ثلاث قوى أُلغِيَت بأكملها، ولتحلّ محلَّها القوة الجديدة. وكان المخطّط الاستراتيجي الأميركي ـ في العام 1983 ـ قد أوكل الاضطّلاع بالشؤون الأمنية في معظم القارة الأفريقية للقيادة الأوروبية، بالنظر إلى أن معظم البلدان الأفريقية كانت مستعمرات أوروبية حافظت على العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية معها. ومنذ منتصف التسعينيّات، كان المختصّون الأميركيون في الشؤون الإقليمية الأفريقية العاملين في وزارة الدفاع الأميركية قد بدأوا يطالبون بإنشاء قوة أميركية في أفريقيا.
في العام 2006، بدأ السعي الحثيث في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لإنشاء مثل هذه القوّة الأميركية الخاصة بأفريقيا. وكان مركز التفكير الإسرائيلي/الأميركي المعروف باسم "معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المعمَّقة" (IASPS) قد أوصى بنتيجة أبحاثة بإنشاء قوّة أميركية موحَّدَة تتولّى الشؤون الأمنية والعسكرية في أفريقيا. وفي 6 شباط (فبراير) 2007أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عن ولادة هذه القوة الموحَّدَة التي باشرت عملياً مهمّاتها في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2008، وتولّى قيادتها الجنرال الأميركي من أصل أفريقي ويليام أ. ورد William E. Ward، الذي كان يتولّى قبل تسلّمه منصبه الجديد، منصب المنسّق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، والذي بدأ بالعمل على إنشاء قاعدة عسكرية في أيّ دولة أفريقية توافق على استقبال المشروع الأميركي الجديد. لكن هذه القاعدة لاقت معارضة أفريقية واسعة، إذ إن أيّ دولة أفريقية لم تُبدِ استعدادها لاستقبالها على أرضها، فاضطّرت الولايات المتّحدة إلى جعل قاعدة "أفريكوم" مؤقتاً في إيطاليا ثم في شتوتغارت في ألمانيا، حيث مقرّ القيادة الأوروبية للقوات المسلَّحة الأميركية، وذلك بانتظار نقل قسم منها إلى قاعدة جيبوتي الأميركية حيث سبقتها إليها قوات إسرائيلية، وحيث توجد قوات فرنسية منذ زمن بعيد في هذه المستعمرة الفرنسية السابقة، أو إلى أيّ بلد أفريقي توافق سلطاته على استقبال القاعدة الأميركية التي كان يُزمَع إنشاؤها، والتي كانت الميزانية المخصّصة لها في العام 2008 بحدود 75 مليون دولار، ثم ارتفعت في العام 2009 إلى 392 مليون دولار.
خلافاً للقيادات العسكرية الأميركية التي تتمركز في مقرّات ثابتة، لا يوجد لـ"أفريكوم" مقرٌّ ثابتٌ في بلد أفريقي معيّن. بل إن العاملين في نطاق هذه القوّة على اختلاف مستوياتها، وعلى اختلاف وظائفهم، يتوزّعون على بلدان أفريقة عدّة، ولا يُطلَب منهم القيام بأيّ مهمّات حربية مباشرة، بل تبقى مهماتهم محصورة في القيام بأعمال لوجيستية. والمهمّة الأولى الموكَلَة إلى هذه القاعدة هي تشديد الرقابة على خليج غينيا، وعليها في بادئ الأمر، ولأسباب ديبلوماسية، أن تأخذ شكل شبكة من القواعد الصغيرة والمتفرّقة، عوضاً عن بناء منشآت ضخمة؛ فعلى واشنطن أن تتّخذ أيضاً مبادرات تضمن لها صورةً أكثر اعتدالاً وقرباً من السكان، كأن تغضّ النظر مثلاً عن استثمار الصين لحقول النفط في السودان، فتكفّ عن إثارة الفتن والقلاقل في هذا البلد.
في العام 2011 اجتاحت منظمة "حلف شمال الأطلسي" (نيتو) ليبيا التي تُعتَبَر "بوابة أفريقيا" بنيّة إرساء قاعدة "أفريكوم" فيها. فأثناء الحرب على ليبيا في العام 2011 قامت هذه القوّة بأول عمل حربي لها بفرض حظر جوي فوق ليبيا. كما قامت في العام نفسه بوضع وحدات من طائرات الاستطلاع من دون طيار في مطار "أربا مينك" العسكري في أثيوبيا. تضطّلع "أفريكوم" بمسؤوليات عسكرية تغطّي كامل القارة الأفريقية، باستثناء مصر حيث المسؤولية العسكرية الأميركية محصورة في يد البنتاغون مباشرة. وتشمل مسؤوليات "أفريكوم" أيضاً، جزر الرأس الأخضر وغينيا الاستوائية وجزيرة ساو ـ تومي، والبلدان التالية الواقعة في المحيط الهندي: جزر القمر ومدغشقر وجزيرتَيْ موريس وسيشل.
المصدر: نشرة أفق لمؤسسة الفكر العربي للبحوث والدراسات، العدد: 309 في 13/02/2013
|