أيّاً تكن النتائج التي ستحملها المرحلة الثانية من الاستفتاء على الدستور المصري يوم السبت القادم (22/12/2012)، والتي ستشارك فيها 17 محافظة من أصل 27 محافظة، فإن نتائج المرحلة الأولى، بغضّ النظر عن كل ما أحاط بها من ملابسات وشوائب وثغرات جليّة، تسمح بجملة انطباعات وملاحظات لا بدّ من تسجيلها.
أول هذه الملاحظات: هو تدفّق الملايين من المصريين إلى صناديق الاقتراع ووقوفهم لساعات في طوابير تمتد إلى عدّة كيلومترات بانتظار الإدلاء بأصواتهم حول دستور يعتبرونه مصيرياً، بل حول خيارات حاسمة تتنازع المصريين ومستقبلهم.
وعلى الرغم من أن هذا التدفق لم ينعكس تماماً في نسبة الاقتراع التي لم تتجاوز ثلث الناخبين عموماً، لاسيّما بسبب المعوقات التي تسببت بها ثغرات رافقت عملية الاقتراع، إلاّ أن هذا التدفق قد أكّد مجدداً أن مصر قد تجاوزت عتبة الامتحان الديمقراطي بنجاح وأثبتت، وهي البلد العربي الأكبر، أنها قد أصبحت الميدان الأرحب للتفاعل السياسي، والميزان الأدق لمزاج شعبي متحوّل بسرعة رغم "منغصات" من هنا وهناك.
لقد دحضت مصر بعبورها السلمي والراقي لاستحقاقاتها الانتخابية، ورغم كل ما شابها من أحداث مؤسفة ومؤلمة، كل التنظيرات التي دأبت منذ عقود على تصوير شعوبنا بأنها غير مستعدّة، بل غير مهيأة للخيار الديمقراطي، وخصوصاً تلك التنظيرات الوافدة إلينا من أبواق أنظمة "تشجّع" شعوباً خارج إماراتها وممالكها على ولوج الديمقراطية، فيما تغلق أبوابها أمام أي تطور ديمقراطي في بلادها.
ولعلّ أبهى مظاهر هذا العبور الديمقراطي الجميل هو تلك المشاركة الواسعة للمرأة المصرية التي حملت بعضهن أطفالهن إلى صناديق الاقتراع وانتظرن ساعات قبل الإدلاء بإصواتهن، بل مارسن رقابة شعبية على رؤساء اللجان فدعتهن إلى إبراز بطاقاتهم للتأكد من كونهم قضاة حقيقيين لا أشخاصاً عاديين حلّوا محل القضاة في الإشراف على الاستفتاء.
ومن مظاهر هذا النضج الديمقراطي الأصيل هو أن المعارضة لم تلجأ إلى سلاح المقاطعة السهل، كما جرت العادة في ظروف مماثلة، بل استنفرت جهودها وطاقاتها، وخلال أيام قليلة لتثبت قوتها ووجودها الشعبي، كما لتثبت أن لدى جمهورها، كما لدى الجمهور الآخر، روحاً عالية من المسؤولية عبر المشاركة، كما عبر تلك الحوارات الهادئة والنقاشات الداعية التي كانت تجري بين مؤيد للدستور ومعارض له داخل طوابير المنتظرين لساعات دورهم في الاقتراع.
كذلك كشفت نسبة المعارضين (حوالي 44 %)، كم كانت جائرة صيغة الجمعية التأسيسية ذاتها التي لم تسمح لأكثر من 25 % من المعارضين بدخولها.
الملاحظة الثانية: لقد أكّدت النتيجة المعلنة للمرحلة الأولى من الاستفتاء، رغم كل ما رافقها من تحفظات أعلنتها بعض منظمات حقوق الإنسان ودعت بموجبها إلى إبطال العملية كلها، أن في مصر تعددية سياسية وفكرية وحزبية حقيقية يتساوى تقريباً عبرها الموالون والمعارضون كما كشفت نتائج الاقتراع.
إن الإقرار بهذه التعددية من كل الأطراف، لاسيّما الطرف الحاكم، ومن دون مكابرة أو إنكار هو المدخل الأسلم لمعالجة كل الثغرات التي شهدتها ما بعد ثورة 25 يناير، والتي أدّت إلى اعتماد نهج المغالبة لا المشاركة، والشقاق لا الوفاق، والتناحر لا التحاور، فطغى الاضطراب السياسي والأمني على الحياة الوطنية المصرية وعرّض المستقبل المصري لأخطر الاحتمالات.
فتيار الإخوان وحلفاؤه مدعو إلى قراءة هذه النتيجة، كما نتائج الانتخابات الرئاسية بجولتيها الأولى والثانية، بعناية ودقة لكي يحرّر نفسه من كل نزعات الغرور والغطرسة، كما من جماعات المزايدة الدينية التي مارست، وما تزال، ضغوطاً شديدة على هذا التيار للخروج عن اعتداله المعروف وتوازنه الظاهري، وهي ضغوط ليست بعيدة في بعضها عن أنظمة عربية وغربية لا تريد لمصر، بشكل خاص أن تستعيد دورها في قيادة الأمّة، وأن تنجح في خيارها الديمقراطي.
أما التيارات المعارضة، على اختلاف مناهجها ومنابتها، فمدعوّة أيضاً إلى الإقرار بقوة الفريق الآخر، وعدم الانبهار بما حققته من إنجازات مهمة، وبالتالي إلى السعي للعمل وفق هذا الإقرار تحت سقف الحياة الديمقراطية السلمية حيث المعارضة لا تغلق أبواب التوافق الوطني، وحيث التوافق لا ينفي خلافات جوهرية وأساسية.
إن في التيارين المتنافسين اليوم في مصر رؤوساً حامية تسعى لجرّ البلاد إلى صدام ونزاع أهلي دموي، فيما عقلاء التيارين مدعوون إلى محاصرة هذه الرؤوس وتغليب لغة الحوار والتوافق بين قوى جمعها ميدان الثورة وفرّقتها شهوات السلطة، وأن في تجربة معركة (أحد) الشهيرة لدروس وعبر.
الملاحظة الثالثة: إن التدقيق في خارطة تصويت مؤيدي الدستور ومعارضيه يكشف بوضوح أن المزاج الحضري في المدن كان مزاجاً معارضاً، فيما المزاج الريفي كان مزاجاً مؤيداً للدستور ولمن يقف وراءه، وهو أمر يقتضي قراءة متأنية من الطرفين لظاهرة باتت تتكرر مع كل استحقاق انتخابي.
فانصراف المزاج المديني أو الحضري عموماً عن تيار الإسلام السياسي، لأسيّما في العاصمة المصرية ذاتها وكل ما لها من دور قيادي في الحياة المصرية، يعود إلى عجز هذا التيار، حتى الآن، عن تقديم برامج ورؤى وممارسات قادرة على فهم نمط الحياة الحديث والمنفتح والعصري والمتنوع في المدن، بل على التعامل باحترام وجديّة مع الطبيعة التعددية للمجتمع المصري، لاسيّما في المدن، مما تسبب في إيجاد مناخ من الإضطراب والحذر والخوف لدى شرائح واسعة من المصريين.
كما أن انصراف المزاج الريفي عن أحزاب المعارضة وقواها، رغم أن بينها قوى ذات تراث عريق في التفاعل مع طبقة الفلاحين، كالقوى الناصرية حيث كان جمال عبد الناصر أول من وزّع سندات التمليك على الفلاحين بعد ثورة 23 يوليو، يعود إلى عجز هذا التيار، ولإسباب مختلفة، عن الوصول إلى أعماق المجتمعات الريفية والتفاعل مع همومها وقضاياها، واقتصار حركته حتى الآن على الجوانب السياسية والدستورية، دون أن نغفل هنا دور التيار الناصري، وخصوصاً المرشح الرئاسي حمدين صباحي، خوض معارك الدفاع عن حقوق الفلاحين في السنوات الأخيرة.
الملاحظة الرابعة: رغم الطابع السلمي والحضاري العام لسير عملية الاستفتاء، لكن هذا لا يمنع تسجيل ظواهر عنف خطرة سبقت الاستفتاء وتلته، كحرق مقار حزبية، ومحاصرة مساجد، وملاحقة إعلاميين والاعتداء عليهم.
إن هذه المظاهر، رغم محدوديتها في الوقت الحاضر، تؤسس لعلاقات خطرة في المجتمع المصري وتدفع بالأمور نحو منزلقات حروب أهلية دموية غالباً ما تبدأ بعنف كلامي، ثم بممارسات عنيفة وصولاً إلى الحرب ذاتها.
إن التوقف أمام هذه المظاهر، ذات الطبيعة الميليشياوية، أمر في غاية الأهمية لأنه إذا كانت الحروب توجد ميليشياتها، فالميليشيات أيضاً توجد حروبها، ولعلّ الدعوة التي ارتفعت مؤخراً في مصر لترخيص الأسلحة للمواطنين، (في وقت يناقش الأمريكيون مسألة إلغاء مثل هذه التراخيص، وهي المكفولة دستورياً)، هي أبرز المظاهر وأخطرها.
إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب مسؤولية عالية من القوى السياسية المصرية جميعها، على اختلاف انتماءاتها واجتهاداتها، وعلى نحو يحصّن خطابها من التطرّف، وإداءها من التهور، وعلى قاعدة ترى أن الخلاف في السياسة لا يمنع الوحدة والتفاهم في كل ما يمسّ الأمن والاستقرار في البلاد.
صحيح إن معظم القوى الرئيسية في مصر كانت تدين الاختراقات الأمنية، أيّاً كان مصدرها، وأيّاً كان هدفها، لكن هذه الإدانة تحتاج إلى ترجمة فعلية على غير صعيد في الحياة المصرية.
الملاحظة الخامسة: إذا كان على التيارات والقوى غير الإسلامية أن تدّرك اتساع المساحة التي يحتلّها التديّن في حياة المصريين ووجدانهم وسلوكهم، وهو إدراك تجلى في الإجماع على المادة الثانية من الدستور، فإن التيارات والقوى الإسلامية مدعوّة بالمقابل إلى التنبه من مخاطر تحويل التديّن إلى تزمّت، وتحويل بيوت الله إلى منابر تحريض على الآخر، وتحويل الدعاة الدينيين إلى كوادر حزبية، لأن هذا سيقود إلى تطاول وتجرؤ على بعض الدعاة حتى داخل المساجد.
إن التديّن أمر مطلوب ومرغوب، لكن التزمّت مرفوض، بل أن التديّن يبدو في أحيان كثيرة ضرورة لما يشكّل من قيم روحية وضوابط أخلاقية وآفاقٍ إنسانية، لكنّ التزمّت بكل أشكاله، دينياً كان أم حزبياً أم سياسياً، هو ضرر كبير يلحق بالبلاد كلها، وبأصحابه على وجه الخصوص.
الملاحظة السادسة: إن الصراع السياسي الدائر في مصر، ورغم كل المظاهر المعاكسة، ليس صراعاً بين إسلاميين وغير إسلاميين، ذلك أن تدقيقاً في القوى المعارضة للدستور مثلاً يكشف أن بينها بعض الأحزاب الإسلامية المهمة، كحزب مصر القوية برئاسة المرشح الرئاسي عبد المنعم أبو الفتوح، وحزب مصر برئاسة الداعية عمرو خالد، وغيرهما من الشخصيات المرموقة في الحركة الإسلامية المصرية.
وبالمقابل ليس كل المؤيدين من الإسلاميين، فهناك أكثر من حزب أو شخصية لا ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي لكنه يقف إلى جانب الإخوان المسلمين في قضية الدستور.
وفي الإطار ذاته، فإن نزعات الاستئثار والتفرد واحتكار السلطة ليست نزعات خاصة بالحركة الإسلامية، كما قد يتبادر إلى البعض، بل هي نزعات عابرة لكل الأحزاب والإيديولوجيات التي عرفتها المنطقة، حاكمة أو غير حاكمة.
فتصوير الأمر، كما تحاول بعض الحركات الإسلامية، على أنه صراع بين الإسلام والكفر مثلاً، هو ظلم وخطأ وتزييف للحقيقة، كما أن تصوير كل حركة إسلامية بأنها حركة ظلامية معادية للديمقراطية، وإنها إقصائية وإلغائية، ليس حكماً عادلاً ولا منصفاً ولا صحيحاً.
الملاحظة السابعة: مع انسداد آفاق الحلّ السياسي لمعركة الدستور في مصر، ومع اتخاذ المواجهات طابعاً عنيفاً حاداً كان لا بدّ للقوات المسلحة المصرية أن تعود من جديد إلى المشهد السياسي بعدما ظنّ كثيرون أنها عادت بالفعل إلى ثكناتها بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد.
وعوّدة القوات المسلحة إلى المشهد السياسي لها إيجابياتها ومخاطرها في آن، كما يبدو للمراقب من الخارج.
الإيجابيات تكمن في دور الجيش كؤسسة يجمع على دورها الجميع، وهو ما تجلّى في الدعوة - الرسالة التي وجهها الفريق أول عبد الفتاح السيسي لكل الأفرقاء إلى مأدبة حوار، كما تكمن هذه الإيجابيات في كون الجيش الضامن للأمن المصري بشقيه الوطني والقومي، كما لكونه الجهة القادرة على تجسير الفجوة بين المتصارعين وعلى سدّ أي فراغ ينشأ من تعاظم التجاذبات والاستقطابات.
ألاّ أن هذه الإيجابيات لا تمنع أن يبدي الكثير من المصريين خوفهم من العودة إلى الحكم العسكري بعد أن حققوا هذا الكمّ من الإنجازات الديمقراطية، وأن يبدأ الجيش بمساعدة المؤسسات السياسية القائمة ثم يحلّ محلها.
إن ميزان الإيجابيات والسلبيات هنا يتطلب من السياسيين كافة إبقاء صراعاتهم في حدود الخلاف الديمقراطي السلمي مدركين أن الفضل في نجاح ثورة 25 يناير يعود إلى تضافر جهود الحاكمين اليوم ومعارضيهم الكثر وإلى القوات المسلحة، وأن أي معادلة للاستقرار في مصر لا تقوم إلاّ على هذه الركائز الثلاثة وتعاونها وتكامل أدوارها.
وإذا كان الجيش في مصر هو حارس الأمن القومي للوطن وللأمّة، فإن ما من أمر يهدّد هذا الأمن سوى المسّ بالوحدة الوطنية المصرية، وبالسلم الأهلي المصري، وبالسيادة الوطنية المصرية، وأقصر الطرق كي يبقى الجيش بعيداً عن السياسة هو في بقاء السياسيين بعيدين عن إغراءات احتكار السلطة وإلغاء الآخر.
في ضوء هذه الملاحظات والانطباعات التي تكوّنت من خلال متابعة المرحلة الأولى من الاستفتاء على الدستور المصري، لا بديل من دعوة كل الأفرقاء في مصر من الخروج من التصادم إلى التحاور، ومن الشقاق إلى الوفاق، من الاختلاف إلى الائتلاف، من الإقصاء إلى التعاون.
إن الخطوة الأولى على هذا الطريق هو في الدعوة الفورية إلى حوار سياسي شامل يحدّد مواد الخلاف على الدستور، في حال التصويت بنعم، والسعي لمعالجتها، أو يعيد تشكيل الجمعية التأسيسية، في حال التصويت بلا، لتأتي أكثر تمثيلاً للإرادة الشعبية وأكثر تجسيداً للوحدة الوطنية.
إن مصر أمام مفترق خطير، فإما أن تترسخ الديمقراطية والوحدة الوطنية والاستقرار، وإما أن تندفع أوضاعها نحو حروب تقودها ميليشيات، بدأنا نرى نذرها تطل علينا.
نعم هناك حروب توجد ميليشياتها، ولكن هناك ميليشيات توجد حروبها.
17/12/2012
أيّاً تكن النتائج التي ستحملها المرحلة الثانية من الاستفتاء على الدستور المصري يوم السبت القادم (22/12/2012)، والتي ستشارك فيها 17 محافظة من أصل 27 محافظة، فإن نتائج المرحلة الأولى، بغضّ النظر عن كل ما أحاط بها من ملابسات وشوائب وثغرات جليّة، تسمح بجملة انطباعات وملاحظات لا بدّ من تسجيلها.
أول هذه الملاحظات: هو تدفّق الملايين من المصريين إلى صناديق الاقتراع ووقوفهم لساعات في طوابير تمتد إلى عدّة كيلومترات بانتظار الإدلاء بأصواتهم حول دستور يعتبرونه مصيرياً، بل حول خيارات حاسمة تتنازع المصريين ومستقبلهم.
وعلى الرغم من أن هذا التدفق لم ينعكس تماماً في نسبة الاقتراع التي لم تتجاوز ثلث الناخبين عموماً، لاسيّما بسبب المعوقات التي تسببت بها ثغرات رافقت عملية الاقتراع، إلاّ أن هذا التدفق قد أكّد مجدداً أن مصر قد تجاوزت عتبة الامتحان الديمقراطي بنجاح وأثبتت، وهي البلد العربي الأكبر، أنها قد أصبحت الميدان الأرحب للتفاعل السياسي، والميزان الأدق لمزاج شعبي متحوّل بسرعة رغم "منغصات" من هنا وهناك.
لقد دحضت مصر بعبورها السلمي والراقي لاستحقاقاتها الانتخابية، ورغم كل ما شابها من أحداث مؤسفة ومؤلمة، كل التنظيرات التي دأبت منذ عقود على تصوير شعوبنا بأنها غير مستعدّة، بل غير مهيأة للخيار الديمقراطي، وخصوصاً تلك التنظيرات الوافدة إلينا من أبواق أنظمة "تشجّع" شعوباً خارج إماراتها وممالكها على ولوج الديمقراطية، فيما تغلق أبوابها أمام أي تطور ديمقراطي في بلادها.
ولعلّ أبهى مظاهر هذا العبور الديمقراطي الجميل هو تلك المشاركة الواسعة للمرأة المصرية التي حملت بعضهن أطفالهن إلى صناديق الاقتراع وانتظرن ساعات قبل الإدلاء بإصواتهن، بل مارسن رقابة شعبية على رؤساء اللجان فدعتهن إلى إبراز بطاقاتهم للتأكد من كونهم قضاة حقيقيين لا أشخاصاً عاديين حلّوا محل القضاة في الإشراف على الاستفتاء.
ومن مظاهر هذا النضج الديمقراطي الأصيل هو أن المعارضة لم تلجأ إلى سلاح المقاطعة السهل، كما جرت العادة في ظروف مماثلة، بل استنفرت جهودها وطاقاتها، وخلال أيام قليلة لتثبت قوتها ووجودها الشعبي، كما لتثبت أن لدى جمهورها، كما لدى الجمهور الآخر، روحاً عالية من المسؤولية عبر المشاركة، كما عبر تلك الحوارات الهادئة والنقاشات الداعية التي كانت تجري بين مؤيد للدستور ومعارض له داخل طوابير المنتظرين لساعات دورهم في الاقتراع.
كذلك كشفت نسبة المعارضين (حوالي 44 %)، كم كانت جائرة صيغة الجمعية التأسيسية ذاتها التي لم تسمح لأكثر من 25 % من المعارضين بدخولها.
الملاحظة الثانية: لقد أكّدت النتيجة المعلنة للمرحلة الأولى من الاستفتاء، رغم كل ما رافقها من تحفظات أعلنتها بعض منظمات حقوق الإنسان ودعت بموجبها إلى إبطال العملية كلها، أن في مصر تعددية سياسية وفكرية وحزبية حقيقية يتساوى تقريباً عبرها الموالون والمعارضون كما كشفت نتائج الاقتراع.
إن الإقرار بهذه التعددية من كل الأطراف، لاسيّما الطرف الحاكم، ومن دون مكابرة أو إنكار هو المدخل الأسلم لمعالجة كل الثغرات التي شهدتها ما بعد ثورة 25 يناير، والتي أدّت إلى اعتماد نهج المغالبة لا المشاركة، والشقاق لا الوفاق، والتناحر لا التحاور، فطغى الاضطراب السياسي والأمني على الحياة الوطنية المصرية وعرّض المستقبل المصري لأخطر الاحتمالات.
فتيار الإخوان وحلفاؤه مدعو إلى قراءة هذه النتيجة، كما نتائج الانتخابات الرئاسية بجولتيها الأولى والثانية، بعناية ودقة لكي يحرّر نفسه من كل نزعات الغرور والغطرسة، كما من جماعات المزايدة الدينية التي مارست، وما تزال، ضغوطاً شديدة على هذا التيار للخروج عن اعتداله المعروف وتوازنه الظاهري، وهي ضغوط ليست بعيدة في بعضها عن أنظمة عربية وغربية لا تريد لمصر، بشكل خاص أن تستعيد دورها في قيادة الأمّة، وأن تنجح في خيارها الديمقراطي.
أما التيارات المعارضة، على اختلاف مناهجها ومنابتها، فمدعوّة أيضاً إلى الإقرار بقوة الفريق الآخر، وعدم الانبهار بما حققته من إنجازات مهمة، وبالتالي إلى السعي للعمل وفق هذا الإقرار تحت سقف الحياة الديمقراطية السلمية حيث المعارضة لا تغلق أبواب التوافق الوطني، وحيث التوافق لا ينفي خلافات جوهرية وأساسية.
إن في التيارين المتنافسين اليوم في مصر رؤوساً حامية تسعى لجرّ البلاد إلى صدام ونزاع أهلي دموي، فيما عقلاء التيارين مدعوون إلى محاصرة هذه الرؤوس وتغليب لغة الحوار والتوافق بين قوى جمعها ميدان الثورة وفرّقتها شهوات السلطة، وأن في تجربة معركة (أحد) الشهيرة لدروس وعبر.
الملاحظة الثالثة: إن التدقيق في خارطة تصويت مؤيدي الدستور ومعارضيه يكشف بوضوح أن المزاج الحضري في المدن كان مزاجاً معارضاً، فيما المزاج الريفي كان مزاجاً مؤيداً للدستور ولمن يقف وراءه، وهو أمر يقتضي قراءة متأنية من الطرفين لظاهرة باتت تتكرر مع كل استحقاق انتخابي.
فانصراف المزاج المديني أو الحضري عموماً عن تيار الإسلام السياسي، لأسيّما في العاصمة المصرية ذاتها وكل ما لها من دور قيادي في الحياة المصرية، يعود إلى عجز هذا التيار، حتى الآن، عن تقديم برامج ورؤى وممارسات قادرة على فهم نمط الحياة الحديث والمنفتح والعصري والمتنوع في المدن، بل على التعامل باحترام وجديّة مع الطبيعة التعددية للمجتمع المصري، لاسيّما في المدن، مما تسبب في إيجاد مناخ من الإضطراب والحذر والخوف لدى شرائح واسعة من المصريين.
كما أن انصراف المزاج الريفي عن أحزاب المعارضة وقواها، رغم أن بينها قوى ذات تراث عريق في التفاعل مع طبقة الفلاحين، كالقوى الناصرية حيث كان جمال عبد الناصر أول من وزّع سندات التمليك على الفلاحين بعد ثورة 23 يوليو، يعود إلى عجز هذا التيار، ولإسباب مختلفة، عن الوصول إلى أعماق المجتمعات الريفية والتفاعل مع همومها وقضاياها، واقتصار حركته حتى الآن على الجوانب السياسية والدستورية، دون أن نغفل هنا دور التيار الناصري، وخصوصاً المرشح الرئاسي حمدين صباحي، خوض معارك الدفاع عن حقوق الفلاحين في السنوات الأخيرة.
الملاحظة الرابعة: رغم الطابع السلمي والحضاري العام لسير عملية الاستفتاء، لكن هذا لا يمنع تسجيل ظواهر عنف خطرة سبقت الاستفتاء وتلته، كحرق مقار حزبية، ومحاصرة مساجد، وملاحقة إعلاميين والاعتداء عليهم.
إن هذه المظاهر، رغم محدوديتها في الوقت الحاضر، تؤسس لعلاقات خطرة في المجتمع المصري وتدفع بالأمور نحو منزلقات حروب أهلية دموية غالباً ما تبدأ بعنف كلامي، ثم بممارسات عنيفة وصولاً إلى الحرب ذاتها.
إن التوقف أمام هذه المظاهر، ذات الطبيعة الميليشياوية، أمر في غاية الأهمية لأنه إذا كانت الحروب توجد ميليشياتها، فالميليشيات أيضاً توجد حروبها، ولعلّ الدعوة التي ارتفعت مؤخراً في مصر لترخيص الأسلحة للمواطنين، (في وقت يناقش الأمريكيون مسألة إلغاء مثل هذه التراخيص، وهي المكفولة دستورياً)، هي أبرز المظاهر وأخطرها.
إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب مسؤولية عالية من القوى السياسية المصرية جميعها، على اختلاف انتماءاتها واجتهاداتها، وعلى نحو يحصّن خطابها من التطرّف، وإداءها من التهور، وعلى قاعدة ترى أن الخلاف في السياسة لا يمنع الوحدة والتفاهم في كل ما يمسّ الأمن والاستقرار في البلاد.
صحيح إن معظم القوى الرئيسية في مصر كانت تدين الاختراقات الأمنية، أيّاً كان مصدرها، وأيّاً كان هدفها، لكن هذه الإدانة تحتاج إلى ترجمة فعلية على غير صعيد في الحياة المصرية.
الملاحظة الخامسة: إذا كان على التيارات والقوى غير الإسلامية أن تدّرك اتساع المساحة التي يحتلّها التديّن في حياة المصريين ووجدانهم وسلوكهم، وهو إدراك تجلى في الإجماع على المادة الثانية من الدستور، فإن التيارات والقوى الإسلامية مدعوّة بالمقابل إلى التنبه من مخاطر تحويل التديّن إلى تزمّت، وتحويل بيوت الله إلى منابر تحريض على الآخر، وتحويل الدعاة الدينيين إلى كوادر حزبية، لأن هذا سيقود إلى تطاول وتجرؤ على بعض الدعاة حتى داخل المساجد.
إن التديّن أمر مطلوب ومرغوب، لكن التزمّت مرفوض، بل أن التديّن يبدو في أحيان كثيرة ضرورة لما يشكّل من قيم روحية وضوابط أخلاقية وآفاقٍ إنسانية، لكنّ التزمّت بكل أشكاله، دينياً كان أم حزبياً أم سياسياً، هو ضرر كبير يلحق بالبلاد كلها، وبأصحابه على وجه الخصوص.
الملاحظة السادسة: إن الصراع السياسي الدائر في مصر، ورغم كل المظاهر المعاكسة، ليس صراعاً بين إسلاميين وغير إسلاميين، ذلك أن تدقيقاً في القوى المعارضة للدستور مثلاً يكشف أن بينها بعض الأحزاب الإسلامية المهمة، كحزب مصر القوية برئاسة المرشح الرئاسي عبد المنعم أبو الفتوح، وحزب مصر برئاسة الداعية عمرو خالد، وغيرهما من الشخصيات المرموقة في الحركة الإسلامية المصرية.
وبالمقابل ليس كل المؤيدين من الإسلاميين، فهناك أكثر من حزب أو شخصية لا ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي لكنه يقف إلى جانب الإخوان المسلمين في قضية الدستور.
وفي الإطار ذاته، فإن نزعات الاستئثار والتفرد واحتكار السلطة ليست نزعات خاصة بالحركة الإسلامية، كما قد يتبادر إلى البعض، بل هي نزعات عابرة لكل الأحزاب والإيديولوجيات التي عرفتها المنطقة، حاكمة أو غير حاكمة.
فتصوير الأمر، كما تحاول بعض الحركات الإسلامية، على أنه صراع بين الإسلام والكفر مثلاً، هو ظلم وخطأ وتزييف للحقيقة، كما أن تصوير كل حركة إسلامية بأنها حركة ظلامية معادية للديمقراطية، وإنها إقصائية وإلغائية، ليس حكماً عادلاً ولا منصفاً ولا صحيحاً.
الملاحظة السابعة: مع انسداد آفاق الحلّ السياسي لمعركة الدستور في مصر، ومع اتخاذ المواجهات طابعاً عنيفاً حاداً كان لا بدّ للقوات المسلحة المصرية أن تعود من جديد إلى المشهد السياسي بعدما ظنّ كثيرون أنها عادت بالفعل إلى ثكناتها بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد.
وعوّدة القوات المسلحة إلى المشهد السياسي لها إيجابياتها ومخاطرها في آن، كما يبدو للمراقب من الخارج.
الإيجابيات تكمن في دور الجيش كؤسسة يجمع على دورها الجميع، وهو ما تجلّى في الدعوة - الرسالة التي وجهها الفريق أول عبد الفتاح السيسي لكل الأفرقاء إلى مأدبة حوار، كما تكمن هذه الإيجابيات في كون الجيش الضامن للأمن المصري بشقيه الوطني والقومي، كما لكونه الجهة القادرة على تجسير الفجوة بين المتصارعين وعلى سدّ أي فراغ ينشأ من تعاظم التجاذبات والاستقطابات.
ألاّ أن هذه الإيجابيات لا تمنع أن يبدي الكثير من المصريين خوفهم من العودة إلى الحكم العسكري بعد أن حققوا هذا الكمّ من الإنجازات الديمقراطية، وأن يبدأ الجيش بمساعدة المؤسسات السياسية القائمة ثم يحلّ محلها.
إن ميزان الإيجابيات والسلبيات هنا يتطلب من السياسيين كافة إبقاء صراعاتهم في حدود الخلاف الديمقراطي السلمي مدركين أن الفضل في نجاح ثورة 25 يناير يعود إلى تضافر جهود الحاكمين اليوم ومعارضيهم الكثر وإلى القوات المسلحة، وأن أي معادلة للاستقرار في مصر لا تقوم إلاّ على هذه الركائز الثلاثة وتعاونها وتكامل أدوارها.
وإذا كان الجيش في مصر هو حارس الأمن القومي للوطن وللأمّة، فإن ما من أمر يهدّد هذا الأمن سوى المسّ بالوحدة الوطنية المصرية، وبالسلم الأهلي المصري، وبالسيادة الوطنية المصرية، وأقصر الطرق كي يبقى الجيش بعيداً عن السياسة هو في بقاء السياسيين بعيدين عن إغراءات احتكار السلطة وإلغاء الآخر.
في ضوء هذه الملاحظات والانطباعات التي تكوّنت من خلال متابعة المرحلة الأولى من الاستفتاء على الدستور المصري، لا بديل من دعوة كل الأفرقاء في مصر من الخروج من التصادم إلى التحاور، ومن الشقاق إلى الوفاق، من الاختلاف إلى الائتلاف، من الإقصاء إلى التعاون.
إن الخطوة الأولى على هذا الطريق هو في الدعوة الفورية إلى حوار سياسي شامل يحدّد مواد الخلاف على الدستور، في حال التصويت بنعم، والسعي لمعالجتها، أو يعيد تشكيل الجمعية التأسيسية، في حال التصويت بلا، لتأتي أكثر تمثيلاً للإرادة الشعبية وأكثر تجسيداً للوحدة الوطنية.
إن مصر أمام مفترق خطير، فإما أن تترسخ الديمقراطية والوحدة الوطنية والاستقرار، وإما أن تندفع أوضاعها نحو حروب تقودها ميليشيات، بدأنا نرى نذرها تطل علينا.
نعم هناك حروب توجد ميليشياتها، ولكن هناك ميليشيات توجد حروبها.
17/12/2012
|