منذ أسبوعين جرؤ 15 مسؤولاً دينياً يمثلون الطوائف الرئيسية في المذهب البروتستانتي، على تحدي أحد التابوهات الراسخة في واشنطن، عندما كتبوا رسالة يستحثون فيها الكونغرس على التحقيق في ما إذا كانت المساعدة الأميركية غير المشروطة لإسرائيل، تساهم في انتهاكات حقوق الإنسان للفلسطينيين. ونظراً لأن القانون الأميركي يقصر استخدام الأسلحة الموردة من قبل الولايات المتحدة للدول المختلفة على حالات «الحفاظ على الأمن الداخلي» أو «الدفاع المشروع عن النفس»، ويمنع مساعدة أي دولة تنخرط في نمط ثابت من أنماط انتهاكات حقوق الإنسان، فإن الموقّعين على الرسالة أعربوا عن قلقهم من تعرض القانون الأميركي المذكور للانتهاك من جانب إسرائيل.
الرسالة في حد ذاتها كانت مثيرةً للإعجاب، حيث اتسمت بالنبرة المعتدلة، والاتزان الاستثنائي في المحتوى، وأعرب أصحابها عن تعاطفهم مع «آلام ومعاناة» الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، وعن أسفهم «لعدم الأمان والخوف» الذي يؤثر على حياة العديد من الإسرائيليين، وعلى حقهم في «الدفاع الشرعي عن النفس». لكنهم أشاروا أيضاً إلى أن الحياة اليومية للفلسطينيين تشهد بدورها «حالات قتل للمدنيين، وهدم للمنازل، وترحيل قسري، وقيود على التحرك من مكان لآخر».
وبعد بيان تلك الانتهاكات بالتفصيل، ناشد أولئك الدينيون الكونغرس عقد جلسات استماع لتحديد الدرجة التي تساهم بها المساعدات الأميركية العسكرية في التصرفات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. واختتموا الرسالة بالقول إنه إذا ما تبين أن إسرائيل ليست ملتزمة بالمواد الأميركية الخاصة بحقوق الإنسان، فإنه يجب تفعيل القانون وقطع المساعدات.
كان رد الفعل على تلك الرسالة هستيرياً ومتوقعاً، حيث قامت بعض الجماعات اليهودية الكبيرة في الولايات المتحدة، بشجب الرسالة والكنائس الموقعة عليها، باستخدام ألفاظ جارحة ومسيئة، متهمةً المسؤولين الدينيين بـ«المشاركة في حملة أخرى أحادية الجانب مناوئة لإسرائيل»، وفي «جهد مناوئ للصهيونية»، كما اتهمتهم «بالتزام الصمت المريب على حملات مناوئة لليهودية، والهجمات التي لا تتوقف على إسرائيل». وقرنت الجماعات اليهودية ذلك الهجوم بالإعلان عن مقاطعتها جلسات الحوار اليهودي المسيحي التي تعقد وفق جدول منتظم، وكان مقرراً عقد جلستها التالية هذا الأسبوع. كما ردت تلك الجماعات على الرسالة بالدعوة لعقد قمة حوار بين الأديان لمناقشة الألم الذي سببته الرسالة المشار إليها. وذهب بعض المسؤولين الدينيين اليهود إلى حد الإيحاء بأنهم قد يتصلون بأصدقاء لهم في الكونغرس لطلب عقد جلسة سماع لمناقشة تصرف الجماعات المسيحية.
ورغم أن هذا التبادل للاتهامات جديد، فإن التوترات التي تساعد عليه موجودة منذ جيل تقريباً، بالإضافة لسلوك البلطجة الذي تمارسه بعض المنظمات اليهودية. فمنذ 34 عاماً أسسنا لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في فلسطين، والتي وضعت على رأس قائمة أولوياتها الدفاع عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من الفلسطينيين، وتطبيق مواد القانون الأميركي الذي يتطلب من الدول المتلقية للمساعدات العسكرية الأميركية، عدم استخدام تلك المساعدات في انتهاك حقوق الإنسان.
ونجحت اللجنة في التقريب بين الأميركيين من أصل عربي، وزعماء حركة الحقوق المدنية من الأميركيين الأفارقة، وزعماء حركة السلام، ورؤساء الكثير من الكنائس المسيحية التي وقعت الرسالة الأخيرة المرسلة إلى الكونغرس، كما حققت بعض النجاح في مناقشة هموم حقوق الإنسان. بيد أنها تعرضت في الوقت نفسه لغضب من بعض المنظمات اليهودية الكبرى. كما تعرضنا للنبذ وتشويه السمعة والوصف بأننا «موالون للإرهابيين»، وتم تعطيل جهودنا للانضمام إلى تحالف سلام تقدمي كبير. ورغم كسب دعم 90 في المئة من أعضاء التحالف، فإن جماعتين يهوديتين هددتا بالتخلي عن الجماعة إذا ما سُمح لنا بالانضمام. وقد تملّك الخوف اللجنة التنفيذية للتحالف جراء تلك التهديدات، فرفضت مرتين طلبنا الخاص بالعضوية.
وهناك أمثلة كثيرة على هذه النوعية من السلوك، التي يمكن اختزالها في قاعدة تنفيذ واحدة وهي استخدام لغة خطاب هيستيرية مفرطة، في محاولة لإرهاب الخصوم، ممزوجةً بتهديد نهائي «بأخذ الكرة وعدم الاستمرار في اللعب».
إن ما تحاول تلك التكتيكات الصبيانية المتسمة بروح البلطجة عمله هو التعمية على القضايا الحقيقية التي تتم إثارتها وإحلال «الإهانة المدعاة» محل القضية المطروحة واعتبار أنها ـ الإهانة ـ هي ما يجب مناقشتها أو معالجتها أولاً.
النتائج الخالصة لتلك التهديدات هي: إخراس أي مناقشة، وتعويق أي عملية فحص لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين، والاستمرار في تقديم المعونات لإسرائيل من دون مناقشة، علاوة على امتهان معنى العداء للسامية والمساواة بينها وبين نقد السياسة الإسرائيلية، بل الدعوة لفحص تلك السياسة، بينما تتواصل معاناة الفلسطينيين، ويجد الإسرائيليون الذين يدعمون السلام وحقوق الإنسان الفلسطيني، أنه لم يعد لهم حلفاء في الحكومة الأميركية، وتتعرض مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لمزيد من التقويض.
من المؤكد أن ذلك يمثل بلطجة صريحة، وهو سلوك يؤدي لتحقيق نتائج عكس المتوخاة منه، ويفسد لغة الخطاب العام، والاحترام بين الناس.
لقد نجحت تلك التكتيكات في الماضي... فهل ستنجح مرة ثانية؟ سننتظر لرؤية كيف ستستجيب لها الجماعات المسيحية، غير أني شخصياً أتمنى أن يتمسك رؤساء الطوائف المسيحية بموقفهم. فهم لا يدينون باعتذار لأحد على الرسالة التي كتبوها، بل يستحقون الثناء من جانب جميع الأميركيين على التزامهم الشجاع والمتوازن بالسلام، والعدل، وحقوق الإنسان.
المصدر: السفير اللبنانية 26/10/2012
|