بين تونس وإضرابات الجوع قصة طويلة بدأت قبل اكثر من عشر سنوات وما زالت مستمرة إلى اليوم، حتى أن أحد الحقوقيين وصفها سنة 2005 بـ "عاصمة إضرابات الجوع".
بعد أكثر من سنة ونصف على سقوط النظام السابق، مازالت اضرابات الجوع في تونس تسجل حضورا بقوة. فقد دخل أعضاء من المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) مطلع تشرين أول/ اكتوبر الجاري إضرابا عن الطعام احتجاجا على حملة مداهمات واعتقالات شملت متظاهرين من مدينة منزل بوزيان التي قدمت أول شهيد في الثورة التونسية.
كما قام شيوخ وعجائز بعضهم تجاوز العقد الثامن، بإضراب عن الطعام في المدينة ذاتها للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهم، الذين احتجوا وتظاهروا للمطالبة بالحق في التشغيل ونصيب الجهة من التنمية.
صحفيون وصحافيات من دار الصباح وصحيفة السور الأسبوعية، أيضا دخلوا في اضراب جوع دفاعا عن استقلالية المؤسسات الاعلامية وعن حق الصحف في الإعلانات العمومية.
وقبل ذلك كان عشرات من جرحى الثورة وعائلات الشهداء ومن العاطلين عن العمل دخلوا في اضرابات عن الطعام في أكثر من مدينة وقرية.
صدى هذه الاضرابات وصل الى وسائل الاعلام الاجنبية في مشهد يذكر تماما بما كان عليه الأمر قبل الثورة، حتى أن بعض المسؤولين الجدد رددوا العبارات ذاتها التي كان يرددها المسؤولون السابقون "ثمة من يعمل على تشويه صورة تونس في الخارج".
بدأت قصة التونسيين مع اضرابات الجوع عندما أصبح هذا الخيار هو الوسيلة الوحيدة أمام الحقوقيين والناشطين السياسيين والاعلاميين لمواجهة الاستبداد، وهو خيار صعب لأنه يضع حياة المضرب عن الطعام أمام خطر معلوم، لكنه كان الخيار الذي لا مفر منه في مواجهة الاستبداد والتضييق على الحريات.
وتمكن التونسيون بدءً من سنة 2000 من مراكمة تجربة نوعية في تنظيم هذا النوع من الاضرابات، ففي تلك السنة أضرب الصحفي توفيق بن بريك عن الطعام احتجاجا على منعه من الكتابة وهو اضراب كسر حاجز الخوف لدى العديد من التونسيين وفتح الأبواب أمام سلسلة أخرى من الاضرابات يبقى أهمها اضراب 18 أكتوبر 2005 الذي شارك فيه حقوقيون وناشطون سياسيون وإعلاميون من ضمنهم وزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية الحالي سمير ديلو.
كان هذا الاضراب هو الأهم لأنه وحّد المعارضة السياسية باختلاف مرجعياتها الايديولوجية وجمّع الحقوقيين والاعلاميين حول مطالب حرية الاعلام وحرية التنظيم.
وأضربت أيضا المحامية والحقوقية راضية النصراوي أكثر من ثلاثين يوما احتجاجا على المضايقات التي تعرضت لها، وأضرب في السجون مساجين حركة النهضة، وهي الاضرابات التي قال عنها الناشط الحقوقي السوري هيثم مناع إنها "الأطول في السجون الأفريقية".
لقد ساهمت هذه الاضرابات، وقتها، في وضع ملف حقوق الانسان والحريات في تونس تحت المجهر، وحظيت بمتابعة في أعلى الهيئات الاوروبية والأمريكية، وهو ما أحرج كثيرا النظام السابق الذي عجز عن رسم صورة أخرى لتونس غير صورة البلد الذي تنتهك فيه الحريات و حقوق الانسان.
بعد الثورة، سقطت كافة القيود التي كانت مفروضة على الحريات وعلى حقوق الانسان في تونس، ووجد بعض من كانوا يشاركون في اضرابات الجوع أنفسهم في مواقع قيادية في الدولة، وكأن الثورة كافأتهم على تلك النضالات.
الثورة التونسية كانت في جوهرها ثورة على الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للنظام السابق، التي حرمت جهات وأقاليم كاملة من تنمية حقيقية، فتوسع الفقر وارتفعت نسب البطالة وغرق الشباب في قوارب الموت نحو الضفة الشمالية للبحر الابيض المتوسط.
وكان من المفروض أن يعي المسؤولون الجدد الذين جاؤوا للحكم من النضال السياسي والحقوقي ومن اضرابات الجوع داخل السجون وخارجها، جوهر الثورة وبالتالي جوهر انتظارات ابناء الجهات المحرومة والمهمشة والعاطلين عن العمل و سكان الأحياء الفقيرة.
لكن ما حصل أن كل الحكومات التي تعاقبت منذ 14 كانون الثاني/يناير 2011 بما في ذلك الحكومة المنتخبة يوم 23 اكتوبر 2011، جعلت من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية تحتل مراتب متأخرة في أولوياتها، معوضة الاجراءات الملموسة بالوعود مرة وبالإشارة الى صعوبة ودقة الوضع الاقتصادي في أغلب الأحيان.
لم يلمس الشباب الذي كان وقود الثورة ثمار دوره في اسقاط النظام السابق، ولم يتغير حال الجهات الداخلية التي بقيت محرومة ومهمشة، ولم تفلح الوعود والحلول اللفظية في اقناع هؤلاء، فكان من الطبيعي أن تبرز من جديد الحركات الاحتجاجية وتتوسع الحركة المطلبية.
إن المتمعن في التوزيع الجغرافي والقطاعي لهذه التحركات يلاحظ أنها في الجهات والقطاعات التي انطلقت منها شرارة الثورة.
وقد تعاملت الحكومة الحالية مع هذه التحركات بأساليب مختلفة، فمن وصف المحتجين بأدوات "بيد الثورة المضادة" و"أزلام النظام السابق" الى استعمال الحل الامني، دون أن تتقدم في ايجاد حلول للأسباب الحقيقية لهذه الاحتجاجات أي الحق في الشغل والتنمية.
ويبقى مثال مدينة منزل بوزيان (محافظة سيدي بوزيد) هو الأبرز، فقد استعمل ابناء هذه المدينة كافة الاشكال للفت انتباه الحكومة الى حقيقة أوضاعهم لكن دون جدوى، مما اضطرهم الى التصعيد في حركة احتجاجهم وهو ما قابلته الحكومة بجملة من المداهمات والاعتقالات شملت العديد من الشبان أغلبهم ممن شاركوا في الثورة.
وأمام هذه الاعتقالات ورفض الحكومة اطلاق سراح المعتقلين لم يبق الا خيار اضراب الجوع الذي شارك فيه شيوخ تجاوز بعضهم عقده الثامن وساندهم أعضاء من المجلس الوطني التأسيسي .
وفي قطاع الاعلام لا يبدو الامر مغايرا، فرغم التحذيرات التي اطلقها المهنيون وهياكلهم الممثلة من محولات الحكومة لإعادة انتاج الهيمنة على قطاع الاعلام، ليكون اداة بيدها مثلما كان الشأن قبل ثورة 14 يناير 2011.
اعتبرت الحكومة دائما أن الاعلام غير محايد ولا يتعاطى مع الحكومة المنتخبة بما يتطلب التعاطي مع حكومة "تمثل إرادة الشعب"، وبلغ الأمر بأنصار الحكومة والأحزاب المكونة لها الى حد توصيف الاعلام أنه أداة "بيد الثورة المضادة". بل وذهبت الحكومة في خطوات عملية اكدت انها بصدد وضع يدها على الاعلام من أجل السيطرة عليه وذلك من خلال سلسلة من التعيينات على راس بعض المؤسسات الاعلامية من ضمنها دار الصباح.
تمت هذه التعيينات بشكل فوقي دون التشاور بين الهيكل الممثلة وهو ما صعد من شدة الاحتجاجات انتهت بإضراب الجوع الذي شنه مجموعة من الصحفيين لأكثر من شهر دفاعا عن استقلالية المؤسسة الاعلامية.
تونس مازالت عاصمة اضرابات الجوع رغم الثورة التي حصلت وهو ما يعني ان اهداف الثورة مازالت لم تحقق لأن في تحقيقها سيرحل هذا التوصيف.
المصدر: http://www.correspondents.org/ar/node/936
|