يشكل المضمون الأخلاقي للثورة جوهرها ومنطلقها الأساسي، فالثورة أخلاقية بطبيعتها وجوهرها لأنها انتفاضة وجودية خلاقة ضد الظلم والقهر والعبودية والاستلاب، وهي في أبسط أحوالها نوع من التضحيات الإنسانية في سبيل الحرية والكرامة والعدالة والحق والخير والجمال؛ والثورة ما لم تنطوي في ذاتها على مضمون أخلاقي فإنها تفقد بذلك دلالتها الثورية وتتحول إلى مجرد تمرد مسلح مضاد للقيمة الأخلاقية ومعاد لكل التصورات والمضامين الأخلاقية للثورة.
فالأخلاق بالتعريف البسيط هي نسق من القيم الإنسانية العليا التي ينشدها الإنسان بوصفه كائنا حرا عاقلا. وهذا التعريف يشكل مضمون التعريف الذي يقدمه الفيلسوف الألماني عمانويل كانط في تعريفه للثقافة حيث يقول: “بأنها مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية" وبهذا تكون الثقافة في نظر كنت أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه". وهذا يعني أيضا بأن الثقافة لا تكون إلا أخلاقية بالضرورة والأخلاق تشكل جوهر كل ثقافة حقيقية.
وقد انطلقت الثورة السورية المباركة وهي تحمل في أعماقها هذه الروح الأخلاقية الكبرى حيت تمثلت أكثر القيم الأخلاقية روعة وعظمة وأبرزها قيمة الشجاعة في مواجهة قوة عاتية متسلطة غاشمة يوجه دفتها ويحرك مسارها نظام سياسي أرعن على رأسه طاغية جبار لا يرحم، وتطلب هذا الأمر تضحيات كبرى جسام أقلها عشرة ألاف من الشهداء الذين أوقدوا مشعل الحرية في سوريا فأية قيمة أخلاقية أعلى من قيمة الشهادة في سبيل الحرية والكرامة والحق والعدل.
ومن ثم انطلقت الثورة السورية مسالمة وديعة عبر التظاهر السلمي فلم تحمل سلاحا أو عصا أو حجرا. وبدا التلاحم الإنساني والجماهيري بين مختلف مكونات المجتمع السوري في المدن والأحياء والقرى من أجل الحق والعدالة والخير والحرية. وقد ذُهل العالم لمشاهد هذه الثورة حيث خرجت مئات الألوف في ساحات العاصي في حماه وغيرها من المدن بدرجة عالية من السلمية والانضباط الأخلاقي دون ضربة كف أو رمية حجر.
إنها الحالة الأخلاقية التي عشناها في ساحات المدن ومساجدها حيث خرج الثوار نساء ورجالا وشيوخا وأطفالا يتحدون الظلم والقهر وهم في حالة اتحاد إنسانية مضمخة بالطاقة الإبداعية الأخلاقية والإشعاع الروحي الإنساني النبيل الذي يهتز له كيان الروح والجسد والعقل. وكانت هي المرات الأولى بعد خمسين عاما من القهر والعنت والظلم والاستبداد التي يجتمع فيها أبناء الشعب السوري بكل أطيافهم للتعبير عن إرادة الحرية والكرامة والقيمة الأخلاقية.
لقد تحولت الساحات في حمص وحماه ودرعا بداية إلى تعبير عن كرامة الشعب السوري الحر الأبي في ظل قيم ثورية عالية وراقية وسامية: العدالة، الحرية، الكرامة، المساواة، رفض الظلم والقهر والعبودية. وما كنا نشاهده كان حلما كان أجمل صورة إنسانية أخلاقية عرفناها في تاريخ سورية الحديثة. وكانت هذه الثورة تعبيرا عن حلم الأحرار والثوار والمثقفين والمفكرين في بلد القهر والذل والمهانة لخمسة عقود من الزمن.
لقد أثبتت الوقائع بأن الثورة السورية ثورة أخلاقية عظيمة شامخة بقوتها وعنفوانها وقيمتها الأخلاقية لقد تجنب الثوار في البدايات الأولى لثورتهم أي سلوك عنيف يتنافى مع القيم الأخلاقية والإنسانية للثورة. لأن الثورة بعفويتها ثورة أخلاقية فالتمرد على الظلم هو قمة العقل والإبداع والكرامة.
أخلاق الاستبداد والاستعباد
إذا كانت الثورة أخلاقية بطبيعتها فالاستبداد السياسي يأخذ مكانه في دورة مضادة للأخلاق والقيمة الإنسانية. فأخلاق النظام القائم على الاستبداد أخلاق النفاق والكذب والخيانة والاستلاب والنهب والانتهازية والسرقة والعنف والظلم والقهر وهي القيم التي يتبناها في مختلف ممارساته الاجتماعية والسياسية للدولة.
لقد وقع نظام الاستبداد السياسي في سوريا عقدا مع النزعة الهمجية الإجرامية فاعتمد كل الوسائل غير الأخلاقية في تحقيق هيمنته وسيطرته واستعباده للخلق والناس، و استباح كرامة الناس وحرياتهم وأمنهم وأموالهم دون أي رادع أخلاقي أو إنساني.
يتضح هذا العقد الهمجي للنظام ضد الأخلاق في مختلف الممارسات السياسية والإدارية في الدولة والمجتمع من أجل الاستئثار بالسلطة والقوة والمال. لقد أبرم النظام عقدا مع المجرمين والقتلة والمارقين فجهل من أسفل الناس طباعا أعلاهم مرتبة وشأنا. ولو نظرنا في الجهاز الإداري للدولة لوجدنا أن النظام اختارهم من ضعاف النفوس ومن فاقدي القيمة الأخلاقية.
وهذا العقد الأرعن شمل السجناء والمحكومين بجرائم ضد الإنسان والإنسانية حيث اعتاد النظام أن يصدر عنهم عفوا تلو العفو في كل مناسبة وفي كل حين حتى فرغت السجون من عتاة المجرمين ليتحولوا إلى قتلة مأجورين يعملون لحساب النظام دون رادع أخلاقي وإنساني.
التشويه الأخلاقي للثورة:
منذ البداية حاول النظام أن يشوه القيمة الأخلاقية للثورة فحاول أن يصور الثوار على أنهم قتلة ومجرمون وسفاحون ومتطرفون ومتآمرون وخونة. وما انفك يعمل في كل مناسبة ويوظف كل الوسائل الإعلامية ليتهم الثوار بالعمالة والخيانة والتطرف. وهذا يعني أن النظام يدرك أهمية القوة الأخلاقية للثورة فحاول أن يدمرها ويشوه معالمها.
ولم يكتف بذلك منذ البداية إذ أطلق المجرمين والسفاحين من السجون ودفعهم إلى الساحات لممارسة دورهم الإجرامي في الإساءة إلى الثورة وأخلاقها وقيمها. وأغلب أحداث العنف غير المبررة قام بها قتلة النظام الذين أفرج عنهم من السجون لممارسة دورهم الإجرامي في القتل و الإساءة إلى قيم الثورة.
وإنني على يقين بأن النظام أبدع حوادث القتل المرعبة التي حدثت هنا وهماك كما أبدع حوادث الخطف والاغتصاب التي أخذت طابعا طائفيا من أجل الإساءة إلى الثورة وتشويه صورتها الأخلاقية. وقد نجح النظام إلى حدّ ما في تشويه صورة الثوار والثورة بممارساته التحريضية ضد الثورة والثوار في كثير من مراحل الثورة ومفاصلها.
الصورة الأخلاقية للثورة :
لا يمكن للثورة أن تكون إلا ثورة أخلاقية بمنهجها وأسلوبها وغاياتها. فالثورة لا يمكن أن تكون همجية ومضادة للقيمة الأخلاقية. وهل هناك أعظم في المستوى الأخلاقي من هؤلاء الشباب الثوار الذين يخرجون بصدورهم العارية يتحدون الرصاص والموت والنار ويستشهدون من أجل الحرية. فأي قيمة أخلاقية تعادل هذه القيمة الأبدية للشهادة في سبيل الحق والحرية والكرامة. وتلك هي أخلاق الثورة والثوار.
فالثورة لا تقوم على ردود الفعل أو الانتقام أو الغدر أو الخيانة أو القتل لأن الثورة قامت في أصلها وجوهرها من أجل تحقيق القيم الأخلاقية السامية في الحق والعدل والحرية والكرامة. ومن يطلب الحرية والكرامة لا يمكنه أبدا أن يدوس على كرامة الآخرين ويسلب حريتهم وكرامتهم، وهذا ما تعلمنا إياه الثورة السورية في كل دقيقة وفي كل حين.
تآمر ضد أخلاقيات الثورة:
أطلقوا كل شياطينهم من أجل تدمير الصورة الأخلاقية للثورة من أجل تعطيل مسارها الثوري والأخلاقي في آن واحد. افتعلوا الأحداث الطائفية والمذهبية غذوها وروجوا لها، أطلقوا شعارات طائفية نسبوها للثورة ونشروها مثل الشعار المشهور الذي تمّ تضخيمه (العلوي على التابوت والمسيحي لبيروت) وضخموا كل الأخطاء والأحداث الثورية، وأطلقوا يد جماعات المجرمين والقتلة من أجل الإساءة للثورة وإضعافها وخلق موقف معاد لها. ومن ثم وظفوا كل القدرات الإعلامية والثقافية من أجل محاصرة الثورة أخلاقيا والإجهاض عليها في مكامنها الأخلاقية. ولا ننكر أنهم أثروا تأثيرا كبيرا ولكن هذه المؤامرات الأخلاقية لم تستطع أن تفلّ في جسد الثورة وأن تؤثر في لجم طاقتها الأخلاقية والإنسانية الخلاقة. فالثوار يبرهنون وسيبرهنون دائما على أنهم أصحاب ثورة كبرى وأن ثورتهم أخلاقية إنسانية ولا يمكن أن تكون غير ذلك. إنها ثورة الأحرار والثوار والأشراف والشهداء. ولا يمكن لأي قوة مهما كانت أن تمتلك القدرة على الانحراف بالرسالة الأخلاقية للثورة ثورة الحرية والكرامة.
الطائفية ثقافة غير أخلاقية:
الثورة لا يمكنها أن تكوم مذهبية أو طائفية أو عنصرية والثورة السورية هي أبعد ثورات الدنيا عن البعد الطائفي. والثقافة التاريخية ترفض القيم المذهبية والدينية والطائفية في السياسية وفي العيش المشترك. المظاهر المذهبية والطائفية التي شهدتها الثورة كانت بفعل فاعل وصناعة صانع فهناك من يتربص بالثورة والشعب والإنسان في سوريا، ومن هنا يجب على الجميع أن يعلم أن الثورة لا يمكن أن تكون طائفية أو مذهبية أو إقليمية لأن الشعب السوري عرف قيمة العيش المشترك ولن يتخلى عنه أبدا. ولذلك مهما عملت القوى المضادة للثورة على تشويه صورتها بالمذهبية والطائفية فهي لن تنجح لأن في النهاية وكما يقول المثل السوري نفسه “لا يصح إلا الصحيح “والشعب السوري مؤمن بالله والوطن والقيمة الأخلاقية للإنسان ولا يمكن أن يكون اكثر من ذلك.
رعاع الثورة وشماسوها:
نقول لكل ثورة رعاعها وسفهاؤها وشماسوها وهمجها. والثورة السورية عرفت هذا النمط من الرعاع والسوقة وهم في أغلبهم من هؤلاء الذين تم تطبيعهم على الجهل من قبل النظام تارة ومن قبل الجماعات الظلامية تارة أخرى. همج الثورة ورعاعها ركام من المجرمين الذي أطلق النظام سراحهم ومن الجهلة الذين ترعرعوا في ظل نظام الاستبداد ومن هؤلاء الذين عاشوا في أجواء الفقر والفاقة والتهميش والجهل فركبوا أمواج الثورة بعقلية الإجرام والقتل وسفك الدماء دون رادع أخلاقي وإنساني. بعضهم يقتل باسم الثورة وبعضهم ينهب وبعضهم يغتصب ويعذب ويتمادى في تجاوز القيم الأخلاقية والإنسانية.
وهذه الفئة تشكل عبئا كبيرا على الثورة وعلى قيمتها الأخلاقية وقد تكون هذه الجبهة أكثر الجبهات التي تخوضها الثورة صعوبة وتحديا ومرارة. فشتان ما بين هؤلاء الثوار الأبطال الذين يخرجون لمواجهة الموت بنبل وشرف وهؤلاء الذين يغتنمون الفرص لممارسة أفعال دنيئة قذرة باسم الثورة والثوار فيغتصبون ويقتلون ويذبحون ويمثلون وهم في كل ذلك يسيئون إلى الإنسان والثورة والتاريخ والحضارة. وما أجدر بالثوار وضع استراتيجية للقضاء على الفئة الضالة الباغية من السفاحين والقتلة والمجرمين الذي يفعلون ما يفعلون ضد الإنسان والمجتمع والثورة.
ثورة من أجل البناء والحضارة
الأخلاق والعقل صنوان لا يفترقان ووجهان لحقيقة أزلية واحدة. والثورة هي حركة عقل وحكمة بل هي بحث عن الحق والحقيقة والصواب. وفي هذا يقول حكيم “كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو الحكمة فإن الحكمة أشد ضياءً من الشمس وإن للنفس صحة ً وسقماً وحياة ً ونحوتاً فصحتها بالحكمة وسقمها بالجهل وحياتها بأن تعرف خالقها وتتقرب إليه بالبر وموتها أن تجهل خالقها وتتباعد عنه بالفجور" .
ويقول ـ مارتن لوثر ـ المصلح الألماني الكبير، و زعيم الإصلاح الديني في القرن السادس عشر (أنّ سعادة الأمم لا تتوقف على كثرة دخلها و لا على قوة حصونها أو جمال مبانيها العامة، و لكنها تتوقف على عدد المثقّفين من أبنائها و على رجال التربية و العلم والأخلاق فيها ) فهنا تكون سعادتها و قوتها العظيمة و مقدرتها الحقّة.
والثورة وفقا لهذا التصور حركة عقلانية أخلاقية تهدف إلى بناء المجتمع وإعادة تشكيله إنسانيا وأخلاقيا، إنها تسعى للنهوض بالمجتمع وهذا النهوض لا يمكن أن يكون إلا على على نحو أخلاقي وعقلاني كما يرى مارتن لوثر. فغياب الأخلاق يعني تصدع في الوجود الإنساني والحضاري للمجتمع. كذا الناس: بالأخلاق يبقى صلاحهم ويذهب عنهم أمرهم حين يذهب. وقد فاضت القريحة الشعرية العربية حكمة في الوصف الكارثي للمجتمع عندما تغيب فيه القيمة الأخلاقية حيث يقول الشاعر:
وإذا أُصيب القومُ في أخلاقهم........ فأقمْ عليهم مأتماً وعويلا
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .....فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه *** فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
والثورة السورية بوصفها حالة حضارية لن يغيب عنها الأهمية المركزية للقيمة الأخلاقية في المجتمع. وكأني بالثوار يقولون مع علي كرم الله وجهه في وصيته لابنه الحسن: “يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك، ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ". وتلك هي أخلاق الثورة ويجب أن تكون. وعاشت الثورة السورية حرة كريمة
|