من حق أبناء طرابلس وعكار، لا بل من واجبهم أن يرفعوا الصوت عاليا عبر حركة احتجاج يومي شعارها: لمصلحة من تتهدد حياة المواطنين وتفرض عليهم مواقف سياسية ومذهبية تتعارض مع تاريخ طرابلس وعكار، وتسيء إلى قرون من العيش المشترك بين طوائفها؟
فمنذ فترة طويلة لا يتوقف الصدام الدموي بين منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية ومنطقة باب التبانة ذات الأغلبية السنية حتى يعود أكثر حدة تاركا عشرات الضحايا والجرحى والمشردين. وسكان المنطقتين هم الأكثر حرمانا في عاصمة الشمال، ومن الأكثر حرمانا على المستوى اللبناني العام. ورغم تكرار الاشتباكات والمصالحات الفوقية، لم يجد الباحثون الاجتماعيون أسبابا عقلانية تبرر تكرارها. وكأن الطابع السني العام للمدينة لا يتقبل وجود منطقة ذات أغلبية علوية في داخلها. فيصبح التطهير الطائفي والمذهبي سمة بارزة في زمن غلبة المشروع الصهيوني والهزائم العربية المتمادية. فهل تضيق جماعة طائفية كبيرة بأقلية مذهبية فيها؟ ألم يتعظ اللبنانيون من التهجير الطوعي أو القسري الذي شهدته بعض المناطق اللبنانية في ظروف الحرب الأهلية المدمرة لسنوات 1975- 1989، والتي استلزمت تأسيس وزارة للمهجرين، ودفع مئات ملايين الدولارات لإعادة قسم منهم إلى ديارهم وتمنع قسم آخر عن العودة، بسبب تأزم العلاقات الاجتماعية بين أبناء الشعب الواحد؟
إن مسيرة التاريخ المضيء لمدينة طرابلس ومعها شمال لبنان تدحض التبريرات الهشة لمسلسل الدمار المتمادي والذي بات يهدد وحدة لبنان. فقد لعبت المدينة دورا محوريا في تاريخ بلاد الشام الحديث والمعاصر. وكانت مركزا لولاية كبيرة تتبعها مناطق لبنانية واسعة من جبل لبنان الحالي حتى أواخر القرن التاسع عشر حين أصبحت بيروت مدينة «كوسموبوليتية» هي الأكثر نشاطا في شرق البحر المتوسط.
وتفخر طرابلس وعكار بمساجدها وكنائسها ومؤسساتها الثقافية المتقاربة لدرجة التلاصق أحيانا، المسيحية منها والإسلامية. وكانت مكتبة طرابلس الثقافية من أرقى المكتبات في بلاد الشام إبان العهد الفاطمي. ونظرا لانفتاحها التام على المناطق المجاورة جوارها استقطبت أعدادا متزايدة من المسيحيين والعلويين في إطار تعايش إيجابي لم تسجل فيه صدامات طائفية أو مذهبية من أي نوع كان.
بيد أن ذهنية الميليشيات في زمن ضعف الدولة المركزية وما رافقها من تدخلات إقليمية ودولية، باتت تهدد ركائز العيش المشترك في طرابلس وعكار ومناطق أخرى من لبنان. وهي تلقى الدعم المالي والعسكري والتحريض من جانب قوى إقليمية ودولية.
يتصرف بعض حديثي العهد في الزعامة من أبناء شمالي لبنان كما لو أنهم في القرن التاسع عشر، فيمارسون تكتيل رعاياهم في خدمة زعماء سياسيين اتخذوا من الطائفية بديلا للانماء الاقتصادي والاجتماعي. فبنوا أمجادا سياسية زائفة على مواقع طائفية ومذهبية سريعة الذوبان، وزعامة سريعة العطب أساءت إلى صورة طرابلس وعكار.
فلمصلحة من يتم تغليب الصراع الطائفي والمذهبي على الصراع الاجتماعي في طرابلس وعكار؟ ولمصلحة من يدفع فقراء طرابلس وعكار، من مختلف الطوائف، مئات القتلى وآلاف المشردين، دون أن يكون لهم دور يذكر في تغيير المعادلات السياسية، الداخلية أو الإقليمية؟
لعل أخطر ما تمر به مدينة طرابلس ومنطقة عكار، بجميع طوائفها، هو التهميش المتعمد لدورها الاقتصادي والاجتماعي، وغياب فرص العمل أمام شبابها، وندرة مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالمدينة وأريافها تعاني منذ عهد الاستقلال من غياب مشاريع التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. ويتحمل زعماؤها وأثرياؤها المسؤولية الأساسية عن هذا التهميش الذي جعل سكانها يعانون مشكلات اقتصادية واجتماعية مزمنة. علما أن تهميش مناطق واسعة من شمال لبنان، جعلها أرضا خصبة للأصوليات الدينية، والنزاعات المذهبية، وتجارة السلاح. وكانت النتيجة ما تعانيه المدينة وجوارها اليوم من أزمات اقتصادية وإنمائية حادة.
لعل أخطر ما في الأزمة الراهنة أنها مفتوحة على جميع الاحتمالات، ومعظمها سلبي للغاية. فقد خرجت إلى العلن في طرابلس وعكار دعوات سياسية ذات أبعاد خطرة تدعو لإقامة منطقة عازلة تحت ستار مساندة المعارضة السورية. ودعا بعض قادتها إلى إخراج الجيش اللبناني من منطقة عكار، وإحلال «جيش لبنان الحر» مكانه على غرار «الجيش السوري الحر».
لكن تلك الدعوات لم تلق آذانا صاغية لدى غالبية سكان طرابلس وعكار. فاستدعي الجيش اللبناني للانتشار على الحدود اللبنانية السورية ومنع استخدامها لتنفيذ توجهات سياسية خطرة، مستفيدة من ضعف الدولة المركزية وانتشار السلاح بكثافة بين أيدي المواطنين. وذلك يؤكد موقفا حازما من جانب القوى العسكرية لردع كل من يتطاول على وحدة لبنان، ولتأديب من يتعرض لكرامة جيشه الوطني، أو يخطط لإقامة إمارات طائفية، أو يتجرأ على القيام بالتطهير الطائفي أو المذهبي في أي منطقة من لبنان.
فالوضع الأمني المتفجر من طرابلس حتى الحدود السورية اللبنانية في منطقة عكار يثير علامات استفهام كبيرة حول وجود مشاريع فتن طائفية ومذهبية تستحضر الأزمة السورية إلى الداخل اللبناني السريع العطب. وقد أفسحت الخلافات السياسية المستفحلة داخل السلطة المركزية في لبنان وتقاعسها عن القيام بواجباتها، المجال أمام صعود تيارات أصولية تحمل مشاريع خطيرة تشوه تاريخ طرابلس وعكار الذي بني على التنوع والتعددية والعيش المشترك. ولم يعد بإمكان الدولة اللبنانية أن تنأى بنفسها عما يجري في عكار من صدامات دموية ذات أبعاد إقليمية ودولية خطرة. فالمنطقة تعج بكل أشكال الأسلحة، الخفيفة منها والثقيلة. وباتت مهمة الجيش والقوى الأمنية أكثر صعوبة بسبب غياب القرار السياسي الموحد على مستوى السلطة المركزية. كما ان انقسام النخب السياسية والاقتصادية والثقافية في طرابلس وأريافها يضعف دور عقلاء المدينة لمصلحة قوى مذهبية مرتبطة بأجندات إقليمية وخارجية تجاوزت كل الخطوط الحمر، ومنها سيادة لبنان، واحترام جيشه الوطني وقواه الأمنية.
ختاما، بعد أن شهدت مدينة طرابلس ومنطقة عكار تصعيدا سياسياً وعسكريا بالغ الخطورة، بادرت النخب المحلية إلى رفع الصوت عاليا، وطالبت باتخاذ خطوات جريئة ضد هذا القتل المجاني، والتلاعب بمصير آلاف اللبنانيين من أبناء شمال لبنان. فالمنطقة تعاني من تداعيات الأزمة السورية على الساحة اللبنانية. فلبنان وسوريا اليوم أمام منعطف خطر قد يفضي إلى حرب أهلية ما لم تبادر النخب السياسية والثقافية والهيئات الاقتصادية إلى التلاقي في مؤتمر جامع للحوار الوطني الذي يعزز الأمن والاستقرار، وفرص التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 14/07/2012
|