بموافقة مجلس الوزراء على قانون استيراد واستعمال السيارات العاملة على المازوت الأخضر في جلسته المنعقدة في 28/3/2012، أعاد فتح ملف كان قد اقفل منذ أكثر من عشر سنوات، بإفشال صفقة لاستيراد سيارات تعمل على الديزل لاستبدال أسطول النقل للسيارات العمومية، بعد ان عانت المدن اللبنانية طويلا من آفة كبرى قاتلة بتحويل السائقين العموميين سياراتهم من البنزين الى المازوت بشكل مخالف للقانون، ردا على صفقة استيراد فانات صغيرة عاملة على المازوت وتنافسهم بشكل غير عادل ! وبالرغم من التسويق المفتعل لأحد الوزراء (صاحب الصفقة) لبعض الأرقام (من شركات سيارات أوروبية آنذاك)، بأن سيارة الديزل اقل تلويثا وأكثر عمرا من سيارة البنزين، الا أن عيّنة السيارات التي كانت تسير على المازوت آنذاك والتي خنقت المدن اللبنانية، لم تكن تحتاج الى أي برهان علمي على عدم صحة هذا الخيار. مواكبة لهذا الملف، كانت قد انطلقت حملة أهلية آنذاك مطالبة بتنظيم قطاع النقل وبوضع قانون للتخفيف من تلوث الهواء الناجم عن هذا القطاع الذي كان يعتبر في تلك الفترة « الأكثر تلويثا » لهواء المدن. صدر القانون وعُدِّل، وبقيت قياسات ومعدلات تلوث الهواء في المدن اللبنانية متخطية كل الحدود والمعايير الدولية، بشهادة كل الدراسات منذ عشر سنوات وحتى آخر دراسة صادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت العام الماضي. فهل كان ينقص هذا الوضع المأزوم والحرج أصلا، إعادة طرح السماح باستيراد واستخدام سيارات المازوت التي تعتبر « الأكثر تلويثا » من أي نوع آخر من السيارات؟
فأين الخطة المتكاملة للنقل المستدام التي تعتمد على إستراتيجيات ومعايير وقيم محددة؟ ولماذا يتم اللجوء دائما الى خيارات مجتزأة تقترحها بعض الشركات وسماسرتها لتسويق بضاعتها (منتهية الصلاحية)، بدل طرح القوانين والسياسات الشاملة المتكاملة؟
ماذا في تفاصيل الاقتراح وما الفرق عمليا بين سيارات البنزين الأكثر انتشارا وسيارات الديزل المقترح استيرادها واستخدامها؟
ما هو معدل عمر السيارات الذي سيعتمد في لبنان، علما أن المعدل في البلدان الأوروبية التي سنستورد منها السيارات هو بين 7 و8 سنوات فقط؟ فهل سنشتري سيارات مستعملة في نهاية عمرها الافتراضي، أم سيارات جديدة قطع الأمل من إمكانية زيادة التحسينات في محركاتها وعوادمها وبدأت الدول المنتجة بوضع خطط عشرية للتخلص من صناعتها؟ وهل سيتحول لبنان الى مستودع لنفايات التكنولوجيا العالمية؟
وقع المغرب في التجربة نفسها منذ عشر سنوات تقريبا، وقد عرف السياح آنذاك حجم الاختناق الذي يصيبهم من رائحة كبريت الديزل التي كانت تخرق الرئتين وتتسبب بضيق تنفس وسعال فوري... مع ان لا شيء منظور يصدر عن تلك السيارات في بداية عمرها !
فهل نعيد هذه التجربة في لبنان؟ وما موقف وزارة البيئة، الوزارة الاولى المعنية بمكافحة تلوث الهواء وبدراسة الأثر البيئي لأي مشروع او خيار قبل تبنيه، لاسيما بعد إقرار مرسوم دراسة الأثر البيئي في الجلسة ما قبل الأخيرة لمجلس الوزراء؟
وزارة البيئة تتحفظ
أكد وزير البيئة ناظم الخوري لـ« السفير » تحفّظه على هذا الخيار منذ ان كان « اقتراح قانون » مقدم من بعض النواب، مؤكدا ضرورة دراسة الأثر البيئي لأي خيار، على ان تكون هذه الخيارات من ضمن حل وقانون شامل للنقل المستدام والأخضر.
وكانت وزارة البيئة قد ردّت على اقتراح القانون الرامي الى السماح باستيراد واستعمال السيارات العاملة على المازوت الأخضر » المقدم من نواب في تكتل التغيير والإصلاح، بأن ليس في لبنان ما يسمى « المازوت الاخضر ». و« أن السيارات الجديدة التي تعمل على المازوت الأخضر، مزودة بفيلتر خاص يتم تركيبه في عادم السيارة، وهو بحاجة الى صيانة لتنظيفه وإفراغه بشكل دائم... والا تخسر السيارة فعاليتها. كما ان استبدال الفلتر المذكور، في حال لم تتم صيانته، هو أمر مكلف للغاية، الامر الذي قد يفقد الجدوى ويؤدي الى نتائج معاكسة بيئيا، خصوصا مع عدم وجود الصيانة للسيارات في لبنان بشكل منتظم ودوري ».
وفي جوابها على اقتراح القانون، تقترح وزارة البيئة التالي : « ضرورة وضع آلية فعّالة لإجراء مراقبة ومعاينة صارمة للسيارات بشكل عام، لاسيما تلك العاملة على المازوت الاخضر (في حال استيرادها) والتزامها باستخدام الفلاتر المطلوبة، وضرورة المنع التدريجي لاستيراد المازوت الأحمر للاستهلاك في قطاع النقل وبيعه في محطات الوقود. والتشديد على ضرورة اقتران سياسة النقل الأخضر في لبنان بدراسة تقييم الأثر البيئي الاستراتيجي، وذلك تمهيدا لإقرار قانون موحد لتحسين وتطوير قطاع النقل، حيث انه من الممكن، في حال اتخاذ خطوات غير مدروسة بطريقة علمية، أن تؤدي الى تفاقم الوضع الحالي البيئي. ومن الجدير بالذكر أن هذه الدراسة ستمهّد لإدراج تدابير أخرى متعلقة بالسيارات العاملة على الكهرباء او السيارات الهجين كما والنقل العام المستدام بشكل متكامل ».
يمكن الاستنتاج مما تقدم، أن وزارة البيئة تتحفظ على سيارات المازوت، إن لناحية التكنولوجيا او لناحية نوع الوقود والتأكد منه، وتطالب بدراسة الأثر البيئي لهذا الخيار، الذي قد يؤدي الى تفاقم الوضع الحالي بدل معالجته.
الفرق بين الديزل والبنزين
بغض النظر عن عدم وجود سياسات عامة للنقل المستدام والصديق للبيئة والاقتصاد معا، ما الفرق، من ناحية الأثر البيئي، بين سيارات البنزين (الأكثر انتشارا في لبنان) وسيارات الديزل المقترح استيرادها واستخدامها في لبنان؟
يرى جيزلين لاكروا من « المؤسسة الوطنية للبيئة الصناعية والمخاطر التكنولوجية » في فرنسا، في تصريح لمجلة « أخبار السيارات البيئية » في عددها الصادر في حزيران العام 2011 ، أن قوة محرّك الديزل « أقوى » بالمقارنة مع محرّك البنزين « الأسرع ». وان الديزل « ارخص » من البنزين لأن كلفة عملية تكريره اقل وشوائبه المسببة بالتلوث اكبر. واذ يرى ان العمر التشغيلي لسيارات الديزل اطول من سيارات البنزين (وكذلك سعر المحرّك أغلى ثمنا)، الا ان محرّك الديزل يتسبب بضوضاء وضجيج أكثر ويتطلب صيانة اكبر لتخفيف الانبعاثات الصادرة عنه. واذ يعترف ان محرك الديزل اكثر اقتصادا للوقود بنسبة 30% عن محرّك البنزين واكثر امانا لناحية أخطار الحريق، يرى ان محرك الديزل يحتاج لتغيير زيته بمعدل أعلى من محرك البنزين وصيانة اكثر، كما ان زيادة التلوث مع زيادة عمر السيارة هي اكبر في سيارات الديزل منها في سيارات البنزين. فالملوثات التي تخرج من العادم في كل كيلومتر تكون اكبر من سيارات الديزل منها من سيارات البنزين، اذا تساوت نظم التحكم بالتلوث بين النوعين.
من الملاحظات على سيارات الديزل انه يصعب بدء تشغيل محركها في الأجواء الباردة بسبب الزيت الثقيل الذي يحتاجه محرك الديزل وعدم وصول درجة حرارة غرفة الاحتراق الى درجة الاشتعال الذاتي.
واذ يعلم الخبراء أن انبعاثات الهيدروكربون من سيارات البنزين اكبر منها من سيارات الديزل وكذلك الأمر بالنسبة لأول اوكسيد الكربون، الا ان المعلوم ايضا ان لانبعاثات سيارات الديزل رائحة مؤذية بسبب زيادة نسب الكبريت فيها. ويحتوي عادم سيارات الديزل على نسب عالية من اكاسيد الكبريت التي تتحد مع المياه عند انبعاثها وتشكل ما يسمى حامض الكبريتيك المسبب للأمطار الحمضية التي تلحق أضرارا بالغة بالغابات وكل التنوع البيولوجي.
كما ينبعث من الديزل المحترق معدلات اعلى من الأجسام الصلبة باكثر من 70% من محرّك البنزين، كما تزيد انبعاثات اوكسيد النيتروجين السام بأكثر من 55% عن محرّك البنزين. بالاضافة الى انبعاثات الجزيئات الدقيقة التي يتميز بها محرّك الديزل والتي شغلت العلماء خلال فترة العشرين سنة للتخلص منها عبر تحسين المحرك والعادم معا، والتي تبين انه كلما صغر حجمها ولم يعد لها لا رائحة ولا لون، اصبح لديها قدرة اكبر على خرق الرئتين والتسبب بمشاكل صحية أعمق واخطر.
تغير المناخ والصحة العامة
يعتبر محرّك الديزل اقل تلويثا من غاز ثاني اوكسيد الكربون المسبب لظاهرة تغير المناخ، الا انه اكثر تهديدا للصحة العامة، بسبب الجزيئات الدقيقة التي تنبعث من عادمه. وقد اجمعت معظم الدراسات الأوروبية هذه المسألة.
والمعروف ان الديزل كان قد وضع من العام 1989 على لائحة المواد المسرطنة للوكالة الدولية للابحاث السرطانية.
ومن يتابع تقارير الوكالات الصحية في الاتحاد الاوروبي منذ العام 1990 يرى كيف تطورت عملية إدانة الديزل في وسائل النقل، ولاسيما لناحية مشكلة الجزيئات الدقيقة التي تبعثها السيارات والآليات في الجو والأمراض الصدرية التي تتسبب بها. واذ ظهرت تقارير عدة، بعد تطور ظاهرة تغير المناخ، لتقول ان الديزل يتسبب بانبعاثات اقل بكثير من غاز ثاني اوكسيد الكربون المتسبب الرئيسي بظاهرة تغير المناخ الناجم بشكل اكبر عن احتراق وقود البنزين في قطاع النقل، عادت الدوائر الصحية لتؤكد ان غاز ثاني اوكسيد الكربون هو اقل تلويثا للهواء (داخل المدن) واقل ضررا بالصحة العامة من الجزيئات الدقيقة المنبعثة من الديزل بعد احتراقه. وقد اظهرت آخر الدراسات والاحصاءات ان الاوروبيين عندما تم مفاضلتهم بين وقود يخفف من تغير المناخ واخطر على الصحة العامة، ووقود آخر اقل ضررا على الصحة العامة واكثر تسببا بتغير المناخ، فضّلوا النوع الاول، الموفّر على الصحة العامة، ولم يمانعوا ضمنا، بنقل هذه التكنولوجيا (المنوي التخلص منها على المدى المتوسط والتي صرفوا عليها الكثير من المال لتطويرها)، إلى البلدان النامية (الأقل تطورا تكنولوجيا) !
ولعل المشكلة الاضافية في البلدان النامية مثل لبنان، ان نظم الصيانة والمراقبة بالاضافة الى نظم المواصفات والمقاييس غير محترمة. وبالتالي فان افضل التكنولوجيات لن تصمد امام حال الفوضى المذكورة، فكيف ستكون الحال مع اسوأ تكنولوجيا؟ ومن سيحقق في لبنان بنوعية الوقود ومدى خضاره؟ !
المصدر: موقع الأفق في 10/04/2012
|