يقترب الحراك الثوري في سوريا من إكمال عامه الأول، ولم تستطع قوى العنف التي تمتلكها السلطة أن تحسم الأمر، وبدت رغم دمويتها غير المسبوقة عاجزة عن تحقيق هدفها الأول والرئيس وهو إخماد الحراك الشعبي، وإعادة المواطن ـ وهو وقود هذا الحراك ـ إلى بيت الطاعة.
لم يسبق أن شهد العالم المعاصر ثورة مستمرة كل هذا الوقت، يسقط فيها هذا العدد الهائل من القتلى، وتستخدم السلطة قوتها العسكرية بهذا الشكل الذي لا تحده حدود، وتتداخل فيه قوى دولية وإقليمية على هذا النحو، وتعجز المنظمات الإقليمية والدولية على بناء مقاربة مجدية من هذا الوضع تدفع إلى حل ممكن.
** ورغم تمسك الشارع السوري رسميا بشعار سلمية التحرك، فإن السلاح وجد طريقه إلى هذا الشارع، دفاعا عن النفس من وحشية ما تقوم به قوى السلطة العسكرية والأمنية، وكذلك بفعل تمرد أفراد وضباط من الجيش السوري على أوامر القتل، وأوامر التصدي بالقوة، وأوامر الاستباحة لمواجهة تصاعد الحراك الشعبي، وأخيرا بفعل دخول قوى خارجية على خارطة الصراع بعد أن طال أمده مستفيدة من البيئة التي وفرها توسع السلطة في استخدام العنف غير المقيد.
**
ورغم تمسك الشارع السوري برفض الطائفية، ورفض الانجرار إليها، فإن هذا الحراك شهد ضغطا ثنائي الجهة، من السلطة ومن بعض أطراف المعارضة لتوليد أفعالا طائفيا، وردود أفعال طائفية، تذهب بهذا الحراك الشعبي من مطالبه الحقيقية الواضحة، وهي مطالب يلخصها شعار الخلاص من نظام فاسد مستبد طائفي وقاتل، وبناء نظام ديمقراطي حر تعددي يضمن المساواة لجميع أبنائه، إلى مطالب الحشد الطائفي والانتقام الطائفي، وكأن الطرفين يعيدان تكرار منظومة الأفكار والشعارات والممارسات التي سيطرت على صراع الثمانينات من القرن الماضي، حينما استطاع النظام أن يصور نفسه حاميا للأقليات، في حين ظهرت قوة المقاومة المسلحة الرئيسية في ذلك الوقت وكأنها المدافعة عن السنة، أي المعادل الموضوعي للحالة الطائفية، وحين وصل ذلك الصراع إلى هذه المعادلة البائسة، خسر الشعب السوري تلك المعركة، وأمكن للنظام أن يمد عمرة ثلاثين عاما أخرى.
** ورغم تمسك الشارع السوري منذ انطلاق الحراك الشعبي برفض التدخلات الخارجية، واعتبار أن هدفه المباشر هو هذا النظام، وما يمثله من قيم وممارسات: الاستبداد، الطائفية ، الفساد، فإنه سرعان ما تمكن النظام وشطر من المعارضة من جر الحراك الشعبي لجعله جزءا من صراع إقليمي ودولي، فصار على الدم السوري أن يدفع ثمن الانقسام داخل منظومة الجامعة العربية، وأن يدفع ثمن التصورات الإقليمية لدور سوريا في المرحلة القادمة، وأن يكون جزءا من إستراتيجية الصراع الأمريكية مع إيران وروسيا والصين في المنطقة، وأن يعتبره البعض مدخلا لتصفية المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ولقد كان النظام سعيدا بالوصول إلى هذه النتيجة، وكان ذلك الشطر من المعارضة سعيدا أيضا بهذه النتيجة، بل إن بعض أطراف المعارضة اعتبر أن حسم الأمر في سوريا سيؤدي إلى انهيار روسيا والصين وإيران، وسيكون بمثابة انتقام إلهي من هذه الدول.
** وعلى خلاف الدور المشبوه للجامعة العربية في معركة إسقاط نظام الزعيم الليبي معمر القذافي المتأله والمستبد والفاسد، فإن الجامعة العربية، وبتأثير الربيع العربي، قدمت فرصة مهمة لإعادة الحراك الشعبي السوري إلى مساره الطبيعي، وتخليصه من التشوهات التي أصابته،ـ بعمل واع ومنظم ومثابر من النظام، ومن أطراف من المعارضة ـ، لكن النظام السوري أجهض هذا الحراك بما وضع عليه من شروط، كما أجهضته تلك القوى المعارضة.
وحين نسترجع أسماء الجمع التي اعتمدت ضد تحرك الجامعة العربية، وضد رموزها، وضد مراقبيها، نستحضر بشكل واضح دور الطرفين: السلطة والمعارضة في العمل على إجهاض التحرك العربي.
**ويبدو أن حدة العنف في سوريا دخلت مرحلة جديدة مختلفة نوعيا وكميا في الفترة الأخيرة حين فتحت السلطات السورية معركة في حمص بمختلف أنواع الأسلحة ودون أي اعتبار لأعداد القتلى وحجم الدمار، فرأينا متوسط عدد القتلى يرتفع ليلامس يوميا المائة قتيل، وشاهدنا قذائف المدفعية والدبابات تدك البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وكذلك حين بدأ مسلسل تفجير السيارات المفخخة في دمشق ومن ثم في حلب، وإذا كانت السلطة تتهم أطرافا من المعارضة بالقيام بهذه الجرائم، فإن أحدا لا يأخذ اتهامات السلطة على محمل الجد، ليس لأنها صحيحة أو غير صحيحة، ولكن لأن السلطة ومصادرها وإعلامها فقدت كل مصداقية لها، بسبب التغطية البائسة أو المضحكة للأحداث في سوريا، فلم يعد أحدا ينظر بجدية إلى ما تقول.
** ولقد دخل على هذا الوضع الداخلي المعقد، الموقف الدولي الذي مثله فشل مجلس الأمن الدولي في اعتماد قرار بشأن سوريا، وظهرت روسيا والصين وكأنهما حاميتان للنظام السوري وقيادته، وبالتالي بدت المؤسسات الدولية معطلة عن فعل أي شيء إيجابي تجاه الوضع في سوريا، وهو أمر أتاح لقوى دولية مشبوهة أن تعمل على التحرك خارج الأمم المتحدة في محاولة لبناء آلية تحرك غربية لا تخضع للقيود والحدود التي توفرها أنظمة الأمم المتحدة.
ولقد جاءت قرارات الجامعة العربية الأخيرة الداعية إلى تشكيل" قوة حفظ سلام عربية دولية تعمل داخل سوريا، والى إلغاء مهمة المراقبين العرب، لتمثل أحدث صور الفشل العربي في التعاطي مع الملف السوري، ولعل الذين صاغوا هذا المقترح كانوا في العمق يريدون تعطيل حركة الجامعة العربية، لأن فرص تطبيق مثل هذا المقترح على النحو الذي يشي به هذا القرار تبدو مستحيلة، وبالتالي فإنه يستدعي مباشرة الرفض السوري والتعطيل الدولي
المشهد العام للوضع السوري يظهر أقصى حالات الاستقطاب، فالنظام يذهب بالعنف إلى أقصى مدى، مقابل شطر من المعارضة تبدو هي الأخرى ذاهبة إلى أقصى مدى، مستعينة بما تستطيع من قوى خارجية وآليات خارجية، وبين هذا وذاك يبدو الدم السوري يراق دون حدود.
وفي هذا المشهد العام يصبح المواطن السوري داخل سوريا وخارجها، ويصبح المواطن العربي في كل الأقاليم العربية، وتصبح كل القوى الخيرة بحاجة إلى موقف واضح من مجريات الأحداث في سوريا وحولها، موقف لا تطيش فيه العقول، ولا تضيع فيه الاتجاهات، ولا يخرج عن ثوابت الالتزام الوطني والقومي والديني والأخلاقي.
أسئلة محددة ومباشرة ورئيسية تطرح في هذا الوضع، وتتطلب إجابات واضحة لا تحتمل التأويل:
1ـ هل ما زال الحديث صحيحا، وممكنا عن سلمية الثورة ؟.
2ـ ما هو الموقف من الجيش السوري الحر، والتشكيلات المماثلة.؟.
3ـ كيف نواجه البث الطائفي، وما نراه من دفع في اتجاه الحرب الأهلية؟.
4ـ ما هو الموقف من أطروحات ومشاريع التدخل الخارجي العسكري، وما يمهد له؟.
5ـ ما هو الموقف من جهود توحيد المعارضة؟.
6ـ هل يمكن اعتماد العلم السوري القديم شعارا وراية للمعارضة؟.
7ـ ما هو الموقف من المقاومة فكرة ووجودا؟.
8ـ ما هو الموقف من حزب الله، وإيران، وروسيا، والصين؟.
9ـ ما هو الموقف من جهود الجامعة العربية ومشروعاتها تجاه سوريا؟.
10ـ ما هو الموقف من إعلانات وخطوات النظام الجارية تحت شعار الإصلاح؟.
هذه أسئلة أعتقد أنها مهمة، بل تمثل الإجابة عليها الناظم للمواقف والرؤى التي لابد أن يتعرض لها كل مهتم بما يجري في سوريا، وكل من تحركه سيول الدم السوري الجارية بغزارة في كل شوارع ومدن سوريا، وكل من في قلبه وعقله ذرة انتماء لهذه الأمة ومستقبلها، أسئلة سيحدد مسار الإجابة عليها واقعيا مستقبل سوريا لمرحلة طويلة.
والذي يطالع الوضع السياسي والميداني في سوريا الآن يدرك أن لا إجابة واحدة عن هذه الأسئلة، بل إن الإجابات تختلف وتتناقض وفق التزام ورؤى الجهة التي تقدم هذه الإجابة، ونحن من خلال التزامنا الوطني والقومي والديني نقدم رؤيتنا وجوابنا.
أولا : إننا نعتقد أن انتصار الثورة رهن بالمحافظة على سلميتها وبالتمسك بهذه السلمية، فسلمية الثورة هي السلاح الأقوى في مواجهة عنف السلطة وأجهزتها، وفي مواجهة الجرائم التي ترتكبها والمذابح التي تقوم بها.
السلمية ليست شعارا أخلاقيا فحسب، وإنما أساسا شعار للنصر، ولتحقيق الهدف في إسقاط هذا النظام، وفي إعادة رسم الدور الوطني لقوى العنف داخل الدولة: الجيش، وأجهزة الأمن، وقوى الأمن.
إن محافظة الثورة على سلميتها تهز بقوة هذه الأجهزة التي تجاوزت دورها الوطني ومهمتها الأساسية، وتعمل على خلخلتها، ومن ثم سحب الشرعية الداخلية التي جعلتها تحيد عن وظيفتها الرئيسية في المحافظة على أمن الوطن والمواطن، وتتحول إلى أداة لحماية النظام ومصالحه والقوى المسيطرة عليه، والأخذ بغير طريق السلمية في التحرك والتظاهر، يقدم شرعية لهذه الأجهزة في مواجهة الثورة الشعبية.
ليس هناك من سبيل إلا التمسك بسلمية التحرك الشعبي، الطريق طويل ودام، وخلخلة هذه الأجهزة ليس بالأمر السهل، لكنه الطريق الأكثر أمنا والأجدى نتيجة، رغم الدماء الغزيرة التي يفجرها، إن اعتماد طريق السلاح سيولد بحورا من الدم أغزر، وسيكون له نتائج أكثر سلبية على مستقبل سوريا، وسيعقد أكثر الصورة التي تصنع المجتمع السوري وتكونه.
ثانيا : لكن التمسك بسلمية الثورة لا يعني أبدا الوقوف بسلبية تجاه جرائم النظام، وإنما يعني بالتحديد أن لا نتخذ العمل العسكري طريقا لإزاحة النظام، وبالتالي لا يكون هدفنا تدمير مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، باتخاذنا إياها هدفا مشروعا، وعدوا لابد من تدميره، هنا يبرز تساؤلان الأول يخص الدفاع عن النفس، والثاني يخص موقف الجنود والقوات التي تؤمر بتوجيه سلاحها للمواطنين العزل الذين يتظاهرون ضد النظام ويريدون تغييره.
إن أحدا لا يستطيع أن يمنع مواطنا يتعرض للعدوان المسلح، بيته وأهله وعرضه لهمجية السلاح أن يدافع بما يملك من قوة ووسيلة أيا كانت عن نفسه، وحين يلجأ المواطن إلى هذا الحق لا يكون قد تحول إلى السلاح ولا يكون قد اتخذ منهج العمل المسلح ورمى وراء ظهره سلمية الثورة، الأمر هنا دفاع شخصي عن النفس وهذا أمر مشروع في كل وقت وظرف.
وحين يؤمر جندي بأن يصوب سلاحه إلى المدنيين المحتجين، أو أن يقوم بعمليات ضد السكان، يكون في هذا الأمر إخلال بالشرف العسكري، وتجاوز للوظيفة والمهمة التي تناط بالجيش ، والتي وجد الجيش أصلا لأجلها، وهنا يكون رفض هذه الأوامر أمر مشروع ، ويكون تنفيذ هذه الأوامر خطيئة لا يبررها شيء، وإن لم يكن من سبيل للتصدي إلى هذه الأوامر إلا التمرد والخروج على المنظومة العسكرية، فهذا أجدى وأحفظ للشرف العسكري، وحين يتحول هذا الجندي لحماية الحراك الشعبي السلمي، يكون قائما بالمهمة الأساسية للعسكري ، وبإحدى الوظائف الأساسية للجيش. وحين يستعيد الجيش توازنه ، ومهمته الرئيسية، وحين تتم محاسبة من استخدم جيش الدول في غير مهمته يصبح تسوية وضع هؤلاء العسكريين أمرا يسيرا.
لكن هذا لا يعني أبدا تشكيل جيش مواز للجيش الوطني، ولا يعني أبدا العمل على عقيدة أن الجيش الوطني تشكيل معاد، ولا يعني أبدا القيام بهجمات عسكرية وكمائن للتصدي لهذا الجيش، إن منع الجيش عن استهداف المدنيين شيء، واستهداف الجيش والعمليات الهجومية عليه شيء آخر، والاعتماد على ما بيد العسكريين الرافضين لأوامر قتل المدنيين شيء وطالب السلاح والعتاد من الخارج شيء آخر.
وفي هذه النقطة يبدو الحديث نظريا في بعض جوانبه، لأن الوضع على الأرض معقد وصعب للغاية، لكن الرؤية النظرية مهمة أكثر في مثل هذه الحالة لأنها هي التي تمكننا من معرفة الفاصل والفرق بين الوضعين، بين عسكري يريد أن يتمسك بشرفه العسكري ومهمته الرئيسية ويقاوم بما استطاع كل أوامر تخالف ذلك، ويدفع ثمنا غاليا لموقفه الشجاع والمطلوب هذا، وبين من يريد أن ينشق لينشئ جيشا آخر، جيشا بديلا ينظر إلى جيشه الأول باعتباره عدوا يجب العمل على مواجهته والتخلص منه.
ثالثا : إن سلوك النظام الطائفي لا يسوغ اعتماد الطائفية في هذا الصراع، لقد استطاع النظام عبر عملية معقدة، أن يصور نفسه حاميا للأقليات، وهذا تصوير مناف للحقيقة، مع أنه على مدى أربعين عاما حقق مكاسب معينة لهذه الأقليات، ولا يحتاج صاحب نظر وضمير إلى جهد حتى يجد شواهد لا تحصى لمناضلين من كل هذه الأقليات دفعوا حياتهم خلال هذه الفترة، والفترة الماضية، وهم يعارضون هذا النظام، إن أي طرح أو سلوك طائفي هو مقتل لهذا الحراك الثوري ولأي حراك ثوري، وهو دعم مباشر لهذه السلطة القائمة، ويجب أن يتمسك كل مناضل من أجل الحرية والديمقراطية بنبذ ورفض أي مسلك أو عمل طائفي، حتى ولو ظهرت أفعال طائفية من هذا الجانب أو ذاك، وفي كل الأحوال فإن طائفية الفعل لا يمكن أن تعتبر مبررا لطائفية رد الفعل، إن الطائفية طاردة للوطنية، ومنافية للفكرة الإسلامية في بناء المجتمعات، ومعارضة لأي فكر قومي حقيقي، كما أنها مدمرة لمفهوم المواطنة والدولة المدنية، وهي أداة من أدوات قوى الغرب الاستعماري في إضعاف البنية الوطنية لمجتمعاتنا والتمكن من الهيمنة عليها، ولا يهم هنا تحت أي شعار تتجلى هذه الطائفية، سواء كان هذا الشعار الإسلام والفكر الديني، أو حماية الأقليات وحقوقها، أو التنوع العرقي والديني لمجتمعاتنا، إن الطائفية في كل هذه التجليات لا تعدو أن تكون شيئا واحدا، إنها سرطان يريد أن يتمكن من المجتمع حتى يقتله، والعراق ، وباكستان ، وأفغانستان، أمثلة أمامنا.
رابعا: في أبجديات الفكر السياسي معلوم أن الخارج ليس جمعية خيرية، وأن التدخل العسكري الخارجي لا يكون ويتحقق إلا لمصالح الدول المتدخلة، وفي مثل وضع سوريا، بجغرافيتها السياسية وطبيعتها التاريخية ومكانتها القومية، فإن أي تدخل عسكري خارجي سيكون حتما لصالح الكيان الإسرائيلي، ولصالح الولايات المتحدة وخططها في المنطقة، ولصالح مشاريع إنشاء الكيانات الطائفية العرقية التي تتطلع واشنطن إلى إحلالها محل الكيانات القائمة، إن هذه حقيقة لا يمكن لأحد الادعاء بعدم معرفتها، أو الظن بأن حجم الدم السوري النازف سيدفع بالدول العظمى إلى تغيير دوافعها والتحول إلى دوافع إنسانية وأخلاقية.
إن كل دعوة للتدخل العسكري الخارجي، وكل مطلب يؤدي تطبيقه إلى مثل هذا التدخل خلف أي زعم أو مبرر أو احتياج ظهر فإنه مطلب لا يراد منه مساعدة الثورة أو الانتصار للثوار أو تخفيف ثقل الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين والسكان العزل، أو التخلص من النظام القائم، وإنما جوهرة استدراج تدخل عسكري خارجي ينهي سوريا ويقسمها، ويفتح بابا واسعا لحرب أهلية فيها، وفي هذا الباب تندرج دعوات "مناطق الحظر الجوي، والمناطق الآمنة، طلب تدخل الناتو، طلب قوات سلام دولية وعربية ، .........الخ" كل هذه تصب في وعاء واحد، وهي مداخل مختلفة ومتنوعة لاستهداف واحد، هو استجرار التدخل العسكري.
في مرة سابقة، حينما رفع معارضو الخارج شعارات تدخل الناتو، والحظر الجوي، قلنا إن هذا غير ممكن، فضلا عن أنه مرفوض في فكرنا والتزامنا، وقلنا أن الذين يرفعون هذه الشعارات يبيعون الوهم للثوار على الأرض، وبالتالي يساهمون في إيذاء هؤلاء الثوار، والتأثير سلبا على هذه الانتفاضة الشعبية العظيمة، وقد أظهر تطور الملف السوري داخليا وخارجيا أن ما ذهبنا إليه كان صحيحا، فما من أحد من الخارج يستطيع أو يريد التورط بإرسال قوات إلى سوريا، وبأثر هذا الوهم تباطأ تطور الحراك الشعبي مقابل تزايد مظاهر التسلح، وكان هذا واحدا من أكثر نقاط الضعف في الثورة الشعبية وفي مظاهر حراكها. ولا أعتقد أن الذين رفعوا شعارات التدخل الخارجي كانوا غافلين عن حقيقة أن أحداً من الخارج لا يريد التدخل، وأحسب أن الاستهداف كان تطوير العمل العسكري الداخلي، وبالتالي فإنهم زادوا من توتير الحراك الشعبي خلف هذه الشعارات حتى تُحدث عدم الاستجابة دوليا لهذه الشعارات حالةً من رد الفعل تدفع إلى اعتماد العمل العسكري، وأعتقد أنهم سجلوا في هذا الجانب نقاطا لصالحهم، لكن الثمن كان مزيد من الدم السوري، ومزيد من الدفع بالثورة عن خطها السلمي المنتج.
لا تدخل عسكري في سوريا، لا يقبل ذلك، ولن يكون ذلك، وفي حال تغيرت الأوضاع وتحقق نوع من هذا التدخل فإن الهدف سيكون تفتيت سوريا، والحرب الأهلية، وسيكون هذا لصالح العدو الأمريكي والإسرائيلي، ومن يعمل ويتفاعل وينفذ مخططاتهما، وستكون المسؤولية في هذا على عاتق تلك الشخصيات والقوى والجهات التي تعمل على حرف الثورة، بمثل ما ستكون على عاتق هذا النظام الذي أوصل سوريا إلى هذه الحال، وحفر خندقا من الدم السوري لا يمكن ردمه أو تجسيره.
خامسا: إن توحيد المعارضة في كل بلد وفي كل مرحلة يبدو شرطا رئيسيا لانتصارها، أو لبلوغها بعض أهدافها، ولا يختلف الوضع في سوريا عن غيره، وحدة المعارضة هدف لابد من تحقيقه، لكن المعارضة لا يمكن توحيدها لسبب كونها معارضة، وإنما يحدث ذلك إذا كانت تحمل من الأهداف والوسائل المشتركة ما يجعل انقسامها مجرد مضيعة للجهد والإمكانات.
وإذا كنا نتحدث عن التكوينات السياسية للمعارضة في سوريا فإن أهم تكوينين هما المجلس الوطني، وهيئة التنسيق، وهناك تكوينات أخرى، ومحاولات الجمع بين المجلس وهيئة التنسيق محاولات لم تتوقف، وهي محاولات ولدت خبرات ثمينة، تستطيع أن تمدنا بقدرة توقع فرص الجمع بين هذين الطرفين.
لقد أثبتت آخر محاولة لتوليد حالة مشتركة بين الطرفين ـ طالبت بها وعملت لأجلها جامعة الدول العربية ـ أن المجلس الوطني لا يريد الاتفاق مع أحد، وهو يطلب من الآخرين الالتحاق به، على برنامجه في الارتباط بالقوى الخارجية، وطلب التسلح، وطلب التدخل العسكري بكل أشكاله ومستوياته، ويريد سوريا القادمة جزءا من المعسكر الغربي، وأقرب صورة لفكره السياسي هو فكر جماعة 14 آذار / مارس في لبنان، ويبدو أن قوى رئيسية في هذه المعارضة قطعت وعودا، وأعطت مواقف، لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، ولوزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه، وللدوحة والرياض وبروكسل ولندن، لذلك كان صعبا إن لم يكن مستحيلا أن يسمح لها أن تسير قدما في توليد إطار عمل مشترك مع أطراف المعارضة الأخرى، ولعل هذا ما دفع برئيس المجلس الوطني إلى إعلان انسحابه بعد ساعات من الاتفاق مع هيئة التنسيق على رؤية أولية مشتركة تتضمن فيما تتضمن الدعوة إلى مؤتمر عام للمعارضة السورية ينبثق عنه هيكلية موحدة للمعارضة تقود البلاد إلى بر الأمان.
إن توحيد المعارضة يبقى الهدف، ويجب السعي دائما له، لكن على قواعد واضحة من العمل، ووفق أهداف واضحة، وبظني أن هذا الهدف لن يتحقق إلا حينما يصل القطاع المؤثر في المجلس الوطني إلى قناعة تامة بأن أيا من الشعارات التي يطرحها ارتباطا بالخارج لن تتحقق، إن اليأس من تحقيق تلك الأهداف من شأنه أن يعيد القوة والمكانة إلى أولئك العاملين ضمن المجلس الوطني الذين لا يوافقون على الارتباط بالخارج، ولا يجدون في ذلك أي منفعة للوضع في سوريا، وأظن أن هؤلاء موجودون الآن في المجلس لكن قدرتهم على التأثير ضعيفة نتيجة تأثير جهات التمويل، ونتيجة الارتباطات التي اشتغلت عليها الجماعات الأخرى في المجلس.
المسألة في توحيد المعارضة يكمن في برامجها، وفي استقلال إرادتها، وفي قدرتها على رؤية ما هو مفيد حقا للحراك الشعبي ولسوريا المستقبل، وما يتسق مع تاريخ هذا البلد، وجغرافيته السياسية، وانتمائه وما عليه من التزامات.
سادسا : لم يكن خافيا أن تطورا مهما حدث في الحراك الشعبي، منذ ما بعد شهر رمضان، تطور يشير إلى تمكن طرف من المعارضة بما توفرت له من أسباب وإمكانات أن يطرح شعاراته، وراياته، على ساحة الحراك الشعبي ويوظفها في إطار رؤيته، والأكثر وضوحا في هذا الموضوع هو العلم، فقد اختفى علم الجمهورية العربية السورية، وحل محلة علم سوريا ما قبل الوحدة، وصارت أوساط من المعارضة تدعوه بعلم الاستقلال، والحق أنه ليس كذلك، هذا ليس علم الاستقلال، فعلم الاستقلال الذي يحمل الرسم نفسه، سلمه الرئيس الراحل، والمواطن العربي الأول "شكري القوتلي" إلى علم الوحدة، أي أنه انتقل به من علم يدل على الاستقلال وراياته، إلى علم يدل على إنجاز أول وحدة عربية في تاريخ العرب المعاصر، وهي الوحدة التي ولدت عبرها "الجمهورية العربية المتحدة"، وحينما نفذ مأجورون جريمة الانفصال في 28 أيلول / سبتمبر 1961 بانقلاب عسكري مدفوع الثمن، أعادوا لسوريا علمها القديم، لكن الشعب السوري رفض ذلك عبر تظاهرات وتحركات شعبية،وإضرابات مستمرة لم تتوقف حتى انقلاب الثامن من آذار / مارس 1963، وكان شعار كل هذا الحراك الشعبي الذي سقط فيه مئات الشهداء محدد في إعادة الجمهورية العربية المتحدة، وحين تمكن الشعب السوري من إزاحة الانفصال الرجعي بتحرك عسكري ثوري كان هدفه إعادة الوحدة، استعاد علم الوحدة، لكن البعث استولى على السلطة، وانفرد بها، ورفض إعادة وحدة الجمهورية العربية المتحدة، إلا أنه احتفظ بعلم الوحدة، لأنه أراد أن يبقى نفسه في إطار القوى الوحدوية رغم أنه عجز عن بناء أي وحده بل إنه أضاع الوحدة الوطنية للشعب العربي السوري نفسه.
إن الانتكاس من علم الوحدة إلى العلم السوري القديم، لا يعبر عن رمز الاستقلال، ولا يعبر عن رمز بديل للرمز المعتمد من النظام القائم، والذين يقفون خلف نشر هذا العلم إنما يريدون أن يرمزوا إلى شطب المرحلة السابقة من حياة سوريا، أنهم يريدون أن يخرجوا سوريا من تاريخها وانجازها القومي العربي، ومن توجهها التحرري الحقيقي التي عبرت عنه تلك المرحلة، وهذه انتكاسة خطرة لابد من رفضها والتصدي لها.
هذا ليس علم الاستقلال، والذين عملوا على رفعه لا يمثلون مرحلة الاستقلال، فعلم الاستقلال ارتفع بيد الشرفاء من هذه الأمة إلى علم الوحدة، وكل عودة إلى الوراء هو انتكاسة.
هذا علم لا يمثلنا، ولا نمثله، هذا علم يمثل سوريا في عهد الانفصال الرجعي الذي صنعه انقلاب عسكري مأجور رمى جانبا بإرادة الأمة وخيارها الحر الديمقراطي المتمثل بخيار الوحدة، وفرض عليها الانفصال، وقتل أول وأهم تجربة معاصرة في بناء دولة عربية موحدة، تجربة كسرت خارطة "سايكس ـ بيكو" وفتحت الأفق لمستقبل عربي جديد.
سابعا : ما هو الموقف من المقاومة، فكرا، وقوى، وبرامج؟، السؤال هذا يطرح في خضم الحراك الشعبي الثوري الراهن في سوريا، وهو خطاب يستهدف راهن الصراع الذي تعيشه سوريا، كما يستهدف مستقبلها، وتبرز في قلب هذا السؤال ما يتصل بالموقف من فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، وما يتصل بالجولان السورية المحتلة، وبقية الأراضي العربية المحتلة، وما يتصل بمسيرة سلام الشرق الأوسط، وما يتصل بتصور دور المنطقة في المستقبل، وقدرتها على الانفكاك من التبعية للولايات المتحدة والغرب الاستعماري.
ما هو الموقف من المقاومة؟، هذا السؤال طرح مبكرا قبل الثورة ومن قبل القوى العربية الحليفة لأمريكا وإسرائيل، طرح في أعقاب حرب 2006، وكان الجواب عليه خجولا ومستترا داخل سوريا، استنادا إلى ما حققته المقاومة ممثلة أولا بحزب الله على الكيان الإسرائيلي في تلك الحرب، وما حققته بعد ذلك المقاومة الفلسطينية في غزة من صمود أسطوري في وجه آلة الحرب الإسرائيلية نهاية عام 2008 وبداية 2009، لكن سرعان ما بدأ الحديث ضد المقاومة يتصاعد خلف جدار الحديث عن القوس الشيعي الممتد من إيران إلى لبنان عبر سوريا والعراق، وإذا أشير إلى حركة المقاومة الإسلامية في غزة"حماس"باعتبارها حركة غير شيعية، كان الجواب والاتهام أن هذه الحركة وشقيقاتها الفلسطينيات صارت أداة بيد إيران،
وحينما انفجرت الثورة في سوريا وضعت على الفور إيران وحزب الله إلى جانب النظام السوري، وضعت في الشعارات المرفوعة، ووضعت في الهتافات، ووضعت في التصريحات، حتى قبل أن يكون ممكنا التحقق من أي شيء، لقد كان الاتهام جاهزا، ثم جعل موقف النظام السوري من قضية احتلال الجولان بابا للتندر والسخرية حيث بقيت هذه الجبهة ساكنه طوال السنوات السابقة، في حين كان النظام يصف نفسه ويصفه حلفاؤه بأنه نظام مقاومة وممانعة.
هذا الموقف على عمومه، لا يتصل بالحدث السوري الراهن، بالثورة وأهدافها، وإنما يتصل بالمقاومة فكرا وقوى وبرامج، ولقد ظهر هذا واضحا حينما بدأت أطراف من المعارضة تعطي التطمينات للعالم الغربي، والمقصود هنا بالتحديد الولايات المتحدة، وأوربا، وكانت أوضح التطمينات المعلنة، أنه في حال استلامها السلطة ستقطع علاقتها بخط المقاومة: حزب الله، وحماس، وبإيران أيضا، وستلتحق بخط التسوية، والدول العربية التي تمثل هذا الخط، والقوى السياسية التي تمثل هذا الخط كذلك ونموذج هذه القوى السياسية قوى 14 آذار.
لو أن هذه القوى التي تعمل في إطار المعارضة طرحت برنامجها لتحرير الجولان، أو أنها طرحت برنامجها لدعم المقاومة الفلسطينية، أو طرحت برنامجها لتخليص الأمة من كامب ديفيد وآثامها، أو طرحت برنامجها لتعزيز قوة سوريا المستقبل ودورها القومي، لكان فيما تقوله نظر، لكنها بعد أن اعتمدت هذا الشحن الطائفي وضعت سوريا التي تتصور في خط التسوية.
إن المقاومة التزام ونهج وبرامج، ولا يجوز أن تدفعنا دموية الصراع مع النظام السوري إلى الخلط بينه وبين الالتزام تجاه المقاومة، نحن لا نقبل أبدا أن تكون فلسطين والمقاومة ستارا لنظام فاسد مستبد وقاتل، وفي الوقت نفسه لا نقبل أن نتخلى عن خط المقاومة بدعوى أن هذا النظام جعل نفسه ضمن خط المقاومة والممانعة، المسألة في هذا المجال لا تحتمل أي مساومة، أو مقايضة، وأعتقد أن هذا هو الموقف الناصري الأصيل، وهو موقف صعب في هذه المرحلة، وفي كل مرحلة يشتد فيها الصراع وتتداخل فيها الرايات والألوان. لكنه الموقف الذي لا بديل عنه.
يجب التمسك دون حدود، ودون شكوك، ودون خيارات، بخط المقاومة باعتباره خط الحياة لهذه الأمة، وفي الوقت نفسه يجب العمل الجاد والمثابر والمتصاعد للتخلص من أنظمة الاستبداد والفساد والطغيان التي تعيث فسادا في حياتنا وترتكب أفظع الجرائم مهما كان ساترها الذي تختاره، إننا لا نقايض هذه بتلك، فمثل هذه المقايضة زائفة، والذي لا يلتزم ثقافة المقاومة لا يستطيع أن يلتزم روح الديمقراطية، ولا إرادة الشعوب الحرة، ولا يستطيع أن يقدم شيئا ذا قيمة لمستقبل هذه الأمة.
ثامنا: ما هو الموقف من حزب الله، وحماس، وإيران، ومن ثم من روسيا والصين والدول الأخرى التي تبدي دعما لنظام بشار الأسد.
هذا السؤال ذو ارتباط مباشر بالسؤال السابق، لكن نستطيع أن نضعه في مكانه الحقيقي ونجيب عليه إجابة واضحة وصريحة وملتزمة.
نحن نرى في حزب الله حركة مقاومة، كما نرى في حركة حماس والجهاد قوى مقاومة، ونلتزم دعمها ما دامت على هذا الخط، خط المقاومة، إننا لا ندعم حزب الله بصفته حزبا شيعيا، وإنما بصفته حزبا مقاوما يملك من الإمكانات ومن الثقافة ومن الرؤية ما يمكنه من مواجهة الطغيان الإسرائيلي في كل حين.
ولا ندعم حماس باعتبارها حماس، أي باعتبارها حركة فلسطينية أو جزءا من حركة الإخوان المسلمين، وإنما ندعم حماس باعتبارها حركة مقاومة أثبتت مصداقية في رفض التسوية ودفعت أثمان ذلك، ومثلها حركة الجهاد الإسلامي، وبقيت مخلصة لهذه الخيار، وننظر إلى تحالفات حماس العربية والدولية ليس في إطار الحاجة المادية والتسليحية فحسب، وإنما أيضا في إطار فكرة المقاومة وترابط قوى المقاومة.
ونحن ندرك طبيعة الترابط بين حزب الله وإيران، وهذا الترابط ليس ترابطا قائما على الحاجة للتسلح والدعم المادي فحسب، وإنما أيضا ـ ولعل هذا هو الأهم ـ ترابطا قائما على فكرتي المقاومة، والمذهبية.
ونحن ندرك علاقة حزب الله بالنظام السوري باعتبار سوريا بوابة حزب الله، وأيضا باعتبار هذا النظام قدم الدعم غير المحدود للحزب ولقوى المقاومة، وأنه تحمل من اجل ذلك الكثير.
ولقد ارتفعت مكانة حزب الله في قلوبنا جميعا بقدر ما اشتدت المعركة مع الإسرائيليين، وبقدر ما أثبت أنه أهل لحمل فكرة المقاومة وتجسيدها.
وفي إطار هذا الموقف وهذا التقدير لحركات المقاومة نتحدث عن مواقف حزب الله وحركة حماس من الحركة الشعبية والثورة الشعبية في سوريا.
لقد استطاعت حركة حماس أن تميز نفسها عن النظام السوري في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها سوريا، لكن حزب الله لم يستطع ذلك، ويجب أن نقر بالخطأ الفادح الذي ارتكبه الحزب وقيادته حينما جعلا موقفهما وراء موقف القيادة السورية، بشكل بدا فيه الحزب وكأنه صوت الدفاع عن هذا النظام، ولم نلحظ أي تنوع في هذا الموقف يمكن أن يعتد به، وظهر واضحا أن السيد حسن نصر الله دفع غاليا من مكانته ومكانة حزبه في قلوب السوريين والعرب نتيجة هذا الموقف، ومن أسف أن هذا الموقف شبه المتطابق مع موقف القيادة السورية، مكن أعداء المقاومة من تسجيل نقاط انتصار في معركتهم ضد المقاومة وقواها. ويخشى أن يكون رصيد هذا القائد المقاوم في قلوب المواطن السوري والعربي قد بدأ ينفذ، وما لم يتدارك هذا الأمر فستكون الخسارة كبيرة.
بل إن ما زاد من الخسارة أن المنهج الذي طرحه قائد المقاومة في التعرف على الأحداث وتقييمها كان منهجا ضعيفا بائسا، يعتمد على قيل وقال، وعلى اتصال هنا واتصال هناك، وعلى مشهد هذا الجمع الذي أخرجه النظام في هذه المدينة أو تلك، دون أن يتوقف ولو قليلا أمام حمامات الدم التي تتدفق في معظم المدن السورية، ليس الآن، وليس بعد اعتماد النظام رواية العصابات الإرهابية، وإنما من اللحظة الأولى وخلال الأشهر الأولى التي لم يكن أحد من النظام يتحدث عن قوى خارجية ومؤامرات خارجية.
يبدو أن قيادة حزب الله لم تر غير الدعم الذي تحتاجه من النظام السوري، دون أن تدرك أو تتوقف أمام ما قدمته المقاومة من دعم ومكانة للنظام السوري، ـ ولن نتحدث هنا عن أهمية الارتباط بالشعب وليس بالنظام فهذا حديث آخر.
نعتقد أنه كان في مقدور حزب الله وقيادته أن يقوما بدور بالغ التأثير دعما للمطالب الشعبية منذ اللحظة الأولى ـ وكانت تلك المطالب لا تتعدى الإصلاح الحقيقي ـ لكن الحزب أضاع هذه الفرصة، فأضاع بذلك دورا مهما، وفرصة لا تتكرر، وأصيب نتيجة ذلك بخسارة يحتاج تعويضها إلى فرصة تاريخية، لا يعرف إن كانت ستأتي أم لا، ولا يعرف ما إذا حزب الله قادرا على اقتناصها حين تأتي أم لا.
إن هذه الخسارة محزنة لكل القوى التي تؤمن بثقافة المقاومة، وتحتاج إلى جهد حقيقي حتى لا نسمح للقوى المضادة للمقاومة الاستمرار في حصد نتائج هذا الوضع.
** أما موقف إيران وروسيا والصين فالمسالة مختلفة نوعا ما، بشأن إيران فقد أصبح واضحا أن هذا البلد الذي يمر بمرحلة صراع محتدم مع الغرب يخشى من نظام قادم ينقل سوريا من جبهة إلى أخرى، وتعبر مواقفه من الوضع في سوريا عن هذه الخشية تعبيرا قويا.
وحتى نفهم إيران بشكل صحيح لابد أن ننظر إلى مرتكزات هذه الدولة، وموقعها منا نحن العرب، فإيران دولة تقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية: فهي دولة قومية فارسية، وهي دولة دينية – شيعية، وهي دولة ذات مشروع نهضوي استقلالي، ثم بعد ذلك وقبل ذلك هي دولة جارة لنا، تجمعنا معها كثير من العلاقات التاريخية والدينية والثقافية والإستراتيجية، وعلى أساس هذا الوضع يجب أن نفهم إيران، ويجب أن نتعامل معها، إن أحدا لا يستطيع أن يفعل إزاء ايران ما فعله وليد المعلم إزاء الإتحاد الأوربي حينما أعلن إلغاء أوربا عن الخارطة نتيجة الخلاف معها. وإن أحدا لا يستطيع منع تأثير إيران في المحيط العربي، فهي تؤثر مباشرة بعاملي المذهب، والنهوض الحضاري، وكلاهما يتضمن موقفا من الكيان الإسرائيلي وهنا يظهر عامل ثالث في التأثير هو تبنيها لخط المقاومة.
إن المشكلة الأساسية مع إيران أن الجانب الآخر في هذه العلاقة، وأعني نحن العرب، ليس لنا وجود حقيقي يمثلنا، ليس لنا قوة أو دولة تحمل مشروعنا ورؤيتنا لمستقبل، مستقبل هذه الأمة ودورها على خارطة المنطقة والعالم، وإنما مجموعة نظم تخضع بشكل أو آخر للسياسات الغربية، وتتبنى مقاصد هذه السياسات.
نحن العرب في مواجهة إيران لا نملك مشروعا نهضويا حضاريا، ولو كان لنا مثل هذا المشروع لاختلفت معادلة التعامل، حين تقف النظم العربية ضد المشروع النووي الإيراني لا تقف من قاعدة المصلحة والرؤية العربية، وإنما من قاعدة المصلحة والرؤية الغربية، وحين نلتزم العقوبات الدولية أو الغربية المفروضة على إيران نلتزمها تحقيقا للمصلحة الغربية، وليس تحقيقا لمصلحة عربية، فالمصلحة العربية تقتضي أن يكون النهوض النووي مشروع عند العرب وعند كل دول العالم، وأن تكون القيود على هذا النهوض قيود تطبق على كل الدول وفي كل القارات، إذ ليس مقبولا ولا مفهوما أن نعارض امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية، أو حتى للسلاح النووي، والكيان الصهيوني يملك ما يكفي لتدمير العالم كله مرات عدة.
إن مصلحة الأمة العربية راهنا ومستقبلا أن تزيد أواصر العلاقة مع إيران، وأن تساعدها على بلوغها النهضة التي تعمل لها، وأن تعتبر ذلك ذخرا لها في قابل الأيام.
إن هذا لا يعني أبدا أنه ليس هناك نقاط احتكاك واختلاف بين العرب أمة وأرضا وتطلعا وبين إيران، فهذا الاختلاف والاحتكاك موجود بحكم الجغرافيا، وبحكم المذهبية، وبحكم أوضاعنا العربية الراهنة، لكن كل هذا غير ممكن الحل إلا في إطار التفاعل السلمي وتنمية علاقات المصلحة بين الجانبين.
وفي هذا الإطار فإننا حين نرفض الموقف الإيراني من النظام السوري، ومن الثورة السورية، فإننا نفعل ذلك على هذه الخلفية من الرؤية، وليس على خلفية اعتبار إيران "عدو صفوي يتقدم عندنا على العداء لإسرائيل" أو على القاعدة البائسة والمضللة التي تقول إن "إسرائيل راحلة ولو بعد مئات السنين لكن إيران خطر دائم وبالتالي فإن العداء لها هو الأساس" .إن هذه الخلفية في النظر إلى العلاقة مع إيران هي خلفية يغذيها الكيان الصهيوني مستفيدا من الروح الطائفية والمذهبية السائدة، ومستفيدا من أخطاء السياسة الإيرانية خصوصا تجاه الثورة السورية.
هنا المطلوب من المعارضة السورية أن تبذل الكثير من الجهد في الحوار مع إيران وفي توضيح خطر دعمها غير المحدود للنظام السوري، وما يستجره هذا الدعم من تقوية موقف ومنطق القوى المعادية للمقاومة، والمرتبطة بالغرب واستهدافاته.
** أما الموقف من روسيا والصين، وهما اللتان استخدمتا حق النقض ضد مشروع القرار العربي الغربي بشأن الملف السوري، فإن ما يجب معرفته أن الدول العربية والغربية عملتا معا على دفع هاتين الدولتين لاتخاذ هذا الموقف من خلال إصرارها على رفض أي تعديل على مشروع القرار المقدم، ومن خلال رفضهما أي تأجيل بالتصويت عليه، وظهر جليا أنهم يريدون ليس نجاح المشروع في مجلس الأمن وإنما إحراج الدولتين الكبريين، وعزلهما دوليا، وهذا هدف لا يخدم احتياجات الثورة السورية والحراك الشعبي السوري، وإنما يخدم مخططات غربية أمريكية في صراع على مستوى العالم يجب أن ننأى بأنفسنا عنه، إن الهيجان الذي قادته أطراف في المجلس الوطني ودول عربية وبشكل مقزز ضد هاتين الدولتين يعطي الدليل على الهدف الرئيس من هذه المعركة، وهو موقف يؤشر إلى أن أحد الأغراض كان فتح مجال لتحرك خارج الأمم المتحدة وقواعدها.
إن روسيا والصين دولتان من دول العالم الكبرى، وهما ترفضان أي نص يحتمل فتح فرصة للتدخل العسكري وذلك بعد الخديعة التي وقعا فيها في الملف الليبي، وكانا يطلبان تعديلا على المشروع من هذه الزاوية أساسا لكن الآخرين رفضوا ذلك، وتكرر الأمر في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إننا حين ندرك هذه الحقائق يمكن أن نفهم أكثر طبيعة مواقف هاتين الدولتين، ويمكن أن نقيم حوارا مجديا معهما، فنختلف أو نتفق على أساس موضوعي، وبما يخدم مصالح شعبنا وثورته.
تاسعا : لعلها المرة الأولى التي تقدم فيها الجامعة العربية خطة عمل ذات جدوى، تصب مباشرة في مصلحة الحراك الثوري للشعب السوري، وتضع "خارطة طريق" للخلاص من نظام فاسد مستبد بشكل سلمي سلس دون الاقتراب من مخاطر الحرب الأهلية والصراع الطائفي أو مخاطر تقسيم وتفتيت الدولة، ودون تدخل خارجي.
النظام السوري وضع من الشروط ما استهدف إجهاض هذا الجهد، لكن في النهاية وافق عليه، وكانت البداية بالمراقبين، لكن ذلك الشطر من المعارضة بدأ منذ اللحظة الأولى العمل على إجهاض هذا المشروع، بدفع شعارات وتسمية جمع، تصب كلها في خانة إجهاض هذا التحرك، وزادوا على ذلك هجوما غير مبرر على رئيس البعثة العربية، وكأن التقرير الذي سيقدم هو تقرير الرئيس وليس تقرير البعثة. إن أهم ما وفره المشروع العربي أن الصراع داخل سوريا لم يعد ذو طرفين، السلطة بأدواتها وعنفها، والشعب بتظاهراته وحراكه وحتى مسلحيه، إذ دخل عامل ثالث هو الجامعة والمراقبين. وفي ذلك تسليم من السلطة بعجزها عن حل قضية داخلية رغم كل ما تملك من أدوات للعنف وما ارتكبته من أعمال عنف.
كان إجهاض عمل البعثة هدفا مشتركا للنظام ولتلك المعارضة، وكانت دول في الجامعة العربية تعمل لذلك، وقد استطاعت أن تصل إلى هدفها. فبدل أن تكون التوصية هي زيادة عدد المراقبين، وتوطينهم في مواقع الحراك الشعبي، وتوفير أدوات ولوازم العمل لهم، وصولا للمراحل التالية من المشروع العربي القائم على إطلاق حوار مضبوط يؤمن انتقالا حقيقيا للسلطة، جاء قرار الجامعة بالتخلي عن هذا المشروع والذهاب إلى مجلس الأمن. لقد مثلت هذه الخطوة انحرافا خطرا في مسار عمل الجامعة.
ورغم هذا الانحراف في عمل الجامعة، فإن العودة إلى المشروع العربي يبقى هو المتاح الوحيد الممكن والسلمي في التعامل مع الملف السوري. ويجب أن ندرك هنا أن العودة إلى المشروع العربي دونه جهدا كبير لأن القوى التي لا تريده قوى مؤثرة عربيا ودوليا. لكن لامناص من ذلك إن أردنا مخرجا ممكنا بأقل الخسائر لمستقبل سوريا.
عاشرا: يبدو أن النظام يسير على برنامجه الخاص غير مكترث بالحراك الشعبي وبالثورة الشعبية، وغير مكترث بأنهر الدمار التي يفجرها عنف أجهزته، وغير مكترث بحقيقة أن جهات عديدة أجنبية دخلت على خط هذا الحراك وهذه الثورة تحاول حرفها أو خطفها.
فكل حديث عن الإصلاح، وكل خطوة يقوم بها، هي جزء من إعلان وبرنامج سابق له، التوقيتات هي نفسها، لم يسرعها سقوط ستة ألاف قتيل بين المدنيين بفعل ما تقوم به قواته في المدن والأرياف السورية، كما لم يغير وتيرتها سقوط أكثر من ألفي عسكري ورجل أمن في هذا الصراع ـ وفق ما يعلن ـ
هو الذي يعلن مشروع الأحزاب، ويصدر قوانين العفو، وقانون الصحافة والإعلام، وقانون الأحزاب، وقانون الإدارة المحلية، وهو الذي يضع مشروع الدستور، ويحدد مواقيت الاستفتاء عليه، ومواعيد الانتخابات لمجلس الشعب الجديد، وهو في كل هذه الخطوات يدعو إليه من يحاور ويحدد مستوى الحوار وسقفه.
وفي كل ذلك يبدو النظام مستبدا في تحديد مستقبل سوريا، كما كان مستبدا في صناعة الوضع المزري الذي وصلت إليه سوريا عبر أربعين عاما. ذلك أن كل الذين تحركوا وأجهدوا أنفسهم لوضع هذه القوانين هم جزء من السلطة التي يتفق السوريون على أنها هي التي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه.
إن النظام في كل ما يقدم عليه يبعث رسالة واحدة تؤكد أنه لا يقر ولا يشعر أنه هو المشكلة الرئيسية في حياة السوريين، وأن تجاوز هذه المشكلة لا يمكن أن يكون من خلاله، وإنما من خلال برنامج وخطوات وآلية يضعها السوريون أنفسهم بقواهم وهيئاتهم وتشكيلاتهم السياسية والاجتماعية.
وإزاء هذا الوضع واستحقاقاته، ما العمل؟!
إن الممكن الوحيد أن يترك النظام وما يطرح، فكل ما يطرح من خطوات في إطار تصوره للإصلاح يخصه هو وحده، ولا يخص الحراك الثوري في سوريا، الذي تبدأ مسيرة إصلاحه من الإقرار بحقيقة أن المشكلة الحقيقية في هذا النظام وأنه لابد من إسقاطه وتجاوزه، وبناء نظام ديمقراطي مدني يمكن السوريين من رسم مستقبلهم ومستقبل بلدهم.
لا جدوى من مناقشة أي مادة من مواد الدستور، ليس لأنه لا يوجد فيه ما يستأهل المناقشة، أو حتى الإشادة، وإنما لأنه يعبر في طريقة وضعه عن حالة الاستبداد ذاتها التي قام الشعب ثائرا عليها. إنه دستور مفروض على الشعب، والتحرك الثوري لهذا الشعب هو في جوهره تحرك يرفض أن يفرض عليه شيء.
والبديل لكل ما يطرحه النظام استمرار الحراك والثورة الشعبية، وتوسيع هذا الحراك ليشمل كل المحافظات وكل الأرياف وكل المدن، والعمل على وقف محاولات حرفها واستغلالها في صراعات لا تفيدها، ولا تعبر عن مبتغاها، واستعادة سلمية الثورة، فهذه الثورة الشعبية السلمية هي وحدها القادرة على تحقيق هدف إسقاط النظام، دون أن يؤدي ذلك إلى إسقاط مؤسسات الدولة وهياكلها، ودون أن تمر سوريا بالتجربة المريرة التي مر وما يزال يمر فيها العراق، ودون أن تتأثر وحدة سوريا الجغرافية، ووحدة الشعب السوري، ودون أن يهدر التزام سوريا الوطني والقومي.
الخاتمة
هناك جهود تبذل من أجل حصر ما يجري في سوريا بين قطبين:
** قطب النظام بكل ما عرفناه وظهر به، وبكل الجرائم التي يرتكبها، وهو ما زال يقدم نفسه باعتباره حامي سوريا الموحدة العربية الملتزمة بقضايا أمتها.
** وقطب معارضة مرتبطة بالخارج تريد أن تمحو من ذاكرة الأمة ومستقبلها كل ما يمت إلى انتماء سوريا العربي والقومي والتحرري.
ولتحقيق هذا الغرض تبذل الأموال، وتثار العواطف الطائفية والنزعات العرقية، وتسخر أجهزة الإعلام، وتعقد الصفقات في العلن وفي السر، ويتم تحريك البيئة الإقليمية والدولية لتوفير فرص تنفيذ هذا الاستهداف، وفي كل هذا يبدو الدم السوري دم المدنيين: النساء والأطفال والشباب هو الوقود المستخدم بغزارة، ودون أي اعتبار.
هذه جريمة يتضافر على صنعها الكثيرون، ولن تنتج إلا الدمار لسوريا. لذلك نحن مدعوون إلى الموقف الصعب، الموقف الذي يحقق هدف الحراك والثورة الشعبية، ويبقي لسوريا طبيعتها وانتماءها ووجودها الجغرافي والوطني. نحن مدعوون إلى أن نمثل ضمير الأمة في هذا الصراع، غير مأخوذين بما يملك هذا الطرف أو ذاك من عناصر قوة قد تبدو في هذه اللحظة أو تلك مبهرة، أو جاذبة، أو حتى رادعة.
** نحن نسعى لسوريا عربية موحدة ديمقراطية، تملك القدرة على بناء نفسها، وتملك أدوات مكافحة الفساد، وتملك آليات منع ولادة نظام فاسد مستبد كالنظام القائم، وتملك أيضا محاسبة كل من ارتكب جريمة بحق هذا الشعب، أهرق دم، أو سرق مال، أو خان أمانة، أو استنبت نزعات طائفية أو عرقية يحمي بها نفسه. يجب أن يقف هؤلاء جميعا أمام القضاء العادل قبل البحث في أي مصالحة تاريخية، فأي مصالحة حقيقية تريد أن تطوي صفحات مؤلمة من تاريخ الشعوب لا تقوم إلا على أساس من قواعد العدل والإنصاف.
** نحن نسعى لسوريا يكون فيها الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، ويتمكن كل من فيها من التعبير عن نفسه وعن ثقافته في إطار من الانتماء لهذا البلد ولحضارته العربية الإسلامية.
** نحن نتوجه إلى قوى الحراك الشعبي والثورة الشعبية، داعين للتصدي بحسم ووعي لكل محاولات المتاجرة بالدم السوري، وكل محاولات الاستهانة بوعي السوريين، وكل جهود الطعن بتاريخ سوريا الوطني والقومي.
** ونحن نعول على هذا الحراك، وعلى وعي القوى والشباب الفاعل في هذا الحراك الذي لا تفقده فظاعة العنف الذي تواجه به السلطة تحركه عن رؤية ما يخبئ له الآخرون من مكائد وكمائن. فالدم الذكي لا يقايض إلا بوطن حر أبي ينتمي إلى أمته وتاريخه، ويتطلع إلى مستقبله الحقيقي الذي يدلنا عليه هذا التاريخ وهذا الانتماء.
وهذا المسعى يستأهل منا بذل الكثير، والعمل الكثير، والتضحية بدون حدود. فالاستسهال قاتل للأفراد والأحزاب والأمم والأوطان، وهو مقبرة الثورات التي لا خروج منها.
الشارقة 18 / 2 / 2012
المصدر: موقع الناصر خشيني http://naceur56.maktoobblog.com
|