هيثم مناع

في ذكرى الاستقلال الوطني في سورية
 
ما هي السبل لإنجاز استقلالنا الثاني و القضاء على التسلط ؟

 

في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 قامت دبابة أمريكية بتحطيم تمثال الطاغية صدام حسين في ساحة الأندلس ببغداد. العالم يقف مذهولا أمام أكبر انتهاك لقواعد الأمم المتحدة منذ نشأتها ودخول الأمريكان العاصمة العراقية. من بقى على قيد الحياة من ضحايا الدكتاتورية يتوزع بين الصراخ فرحا أو ألما. مجموعة من اللصوص المحليين والأجانب يبادرون بعمليات سطو هوجاء. وقسم من أنتلجنسيا وسياسيي المنفى، الذين همشتهم سلطة العصبة الواحدة،  تلحق بركب من دخل مع قوات الاحتلال "على طائرة عربية " كما عبّر الباجه جي، أو بطريق البر كما فعل المرحوم الحكيم. يلتحق بالركب تباعا الحزب الإسلامي العراقي وحزب الدعوة والحزب الشيوعي. النساء الثكالى والأرامل والمعدمات يغبن عن المشهد، ثم يباشرن الخروج للعلن مع نبش المقابر الجماعية.

"لم يكن مستقبل العراق في يوم من الأيام، يقول لنا قيادي إسلامي انضم لمجلس الحكم بعد لقائي معه بإسبوعين، أكثر غموضا منه في ذاك اليوم". العالم يقذف خارج قواعد اللعبة الدولية التي صيغت خلال 55 عاما إثر سقوط النازية. قواعد العمل السياسي تهشمت، فالجماهير لم تعد معيارا لأي تغيير في البرنامج السياسي للأحزاب الجديدة المرشحة لحكم العراق. كما أن التحالفات والصداقات توقفت عن كونها الشكل الوحيد للعلاقة مع الآخر منذ اجتماع المعارضة العراقية بإشراف أمريكي في لندن. يمكن للقادم من وراء الأطلسي أن يقوم لوحده بتغيير نظام الحكم وتعيين من يريد وتحويل المواطن إلى مستشار له، باعتباره السلطة المركزية في البلاد.

أعطت دكتاتورية صدام وضعا لا شبيه له على الصعيد العالمي. فقد باشر حربا مع إيران من أجل الغرب، واحتل الكويت في حرب أراد فيها تقاسم الغنيمة النفطية مع الغرب، وفعل كل شئ لتجنب حرب إزالته. من أجل ذلك دفع شعب العراق وجيرانه ثمنا باهظا.

موضوع هذه المداخلة ليس احتلال العراق، وإنما ولادة ما يمكن تسميته "بالتناذر العراقي". هذا التناذر يختلط فيه العامل النفسي بالعامل السياسي بالقمع الذاتي والموضوعي وبحالة الوهن العام التي تعاني منها الحركات السياسية العربية. ذلك نتيجة نصف قرن من الإقصاء والمحاربة والتصفيات والإذلال أفقدت الكثير من كوادرها توازنه وجعلت مسألة الاعتماد على الآخر لحل مشكلات الذات موضوعا عاديا. موضوع يمكن تناوله ومناقشته في طيف ضوئي واسع يبدأ بالعلاقة مع المجتمعات المدنية والسياسية وينتهي باستجداء البنتاغون.

كان من الغريب أن تصلني بالأمس من مركز الشرق العربي الذي يشرف عليه عضو مسؤول في حركة الإخوان المسلمين وباسم حرية الرأي، مقالة لكاتب سوري يقول فيها:

"يبدو أن استخفاف النظام بنا وقفزه فوق جدراننا يأتي من معرفته بنا أكثر مما نحن نعرفه أو نعرف أنفسنا أو ماذا نريد. فهذا النظام يدرك أننا نسير وفقاً لخرائطه ونعتمد قواميسه في الوطنية والقومية والأمانة والخيانة ونتقيد بما يرسمه راضين قانعين. ونطلق شعارات تفيد بعدم الإستقواء بالخارج على الوطن.

والمنفيون ما زالوا يقولون إنهم لن يعودوا علي دبابة أمريكية حتى ولو ماتوا في الغربة.

والآن: ماذا لو بدأنا بمراجعة أنفسنا كأفراد وجماعات، في داخل البلد وفي خارجه؟ ماذا لو تحررنا من خرائط النظام ورسوماته وتعابيره وبدأنا نفكر بديناميكية منبعها مصالحنا كبشر؟ والسيناريوات في هذا المجال تتعدد إن شئنا. ماذا لو فكرنا بطريقة تفكير رموز وحماة وحفظة النظام؟ ماذا لو قلنا بأعالي أصواتنا: إن كنتم أقوياء علينا فالعم سام أقوي منكم وسنسبقكم إليه ولن تستطيعوا وصفنا بالخونة وإلا فأنتم حفنة من الضالعين بالخيانة منذ زمن بعيد؟ وهل المطالبة بحقنا بالعيش بكرامة وحرية يعني خيانة؟ ماذا لو تحررنا مما علمتمونا إياه في المدارس ومن خلال وسائل إعلامكم أن أمريكا هي العدو وقلنا ليس لدينا عقدة اسمها أمريكا؟ ماذا لو قلنا إن الأرض واسعة وتتسع لنا جميعاً السوري والأمريكي والإسرائيلي؟ ماذا لو فكرنا بحيادية وبتجرد وسألنا أين، وما هو، الوطن؟ ماذا لو فكرنا أن العمر قصير ولن نعيش مرتين؟ ماذا لو فكرنا أننا في كل الأحوال حرمنا من كل شيء في هذه البقعة المسماة سورية فأيهما أنسب لدينا إن حكمتها المافيات المحلية وقالت اذهبوا إلى الجحيم أو جاء أجنبي ليقول سيكون لشركاتي حق الاستثمار في هذه المنطقة ولكم أيضاً حقوقاً وضمانات يكفلها لكم القانون؟ هل أفضل لنا أن نعيش في بلد أجمل بقاعه تحتلها العصابات الحاكمة وتضرب طوقاً على مسافة عدة كيلومترات وتقول ممنوع الإقتراب أم إن كانت تلك الأماكن بيد شركات رأسمالية تستثمرها لتربح ـ نعم ـ ولكنها لا تحظر علينا رؤيتها والتمتع بها؟ أيهما أنسب لنا أن تحكمنا مافيات وتقول الكلام الوحيد معكم هو في فرع فلسطين و سجن تدمر أم أن يحكمنا أياً كان علي وجه الأرض ويمنحنا الحق في العيش بكرامة وإنسانية ولا  يستعلي علينا؟(انتهى الاستشهاد)".

 

المشكلة أن الأنموذج العراقي، مهما كان تقييمنا له والزاوية التي نراها منه، هو أنموذج وحيد. وهو لن يتكرر لا بمأساة أو بمهزلة أو بطبعة أجمل. كل ما يمكن أن يصلنا من رياحه، استنفار السلطات السورية لحماية المحتل الأمريكي ومصالحه في المنطقة وبقاء قواته في العراق، ضرب الحركات الإسلامية، وضرب الجبهة الرافضة لسياسة آرييل شارون في سورية ولبنان. من هنا لن نضيع كثير وقت مع أصحاب أطروحة "الحلم الأمريكي" وسنتركهم يدغدغون مشاعرهم الذاتية ويحملون خيال المآته لتخويف أجهزة أمن سبقتهم إلى العم سام، ووضعت نفسها تحت تصرفه بداعي الحرب ضد الإرهاب. يبقى السؤال الأساسي برأينا هو: هل تعرف القوى الديمقراطية ماذا تريد؟ هل لديها برنامجا للتغيير وتصورا واضحا لوسائل النضال الممكنة؟ هل هناك قوى مجتمعية مؤهبة لهذا التغيير وعلى استعداد للتضحية من أجله؟ 

في نقاش مع أصدقاء في الحزب الشيوعي اللبناني في لبنان عام 1977، قال لنا عضو في اللجنة المركزية للحزب: "ماذا تريدون بالضبط؟ الاشتراكية أم الديمقراطية؟ وما معنى ديمقراطية متوجهة اشتراكيا؟ إن كنت تريدون الديمقراطية اتصلوا بالأممية الثانية والأحزاب الليبرالية الأوربية. لو كان السوفييت مقتنعين بديمقراطيتكم لطبقوها عندهم". بعد خمسة أعوام رويت القصة للمراقب العام لحركة الإخوان المسلمين في جلسة جمعت عددا من المثقفين والسياسيين بعد أن دافع بحدة عن شخصية وقيادة صدام حسين ثم طرح برنامجا "ديمقراطيا" لتحرير سورية. وقلت له: هل يمكن الاعتماد على قوة غير ديمقراطية لبناء الديمقراطية في سورية؟

العلاقة بالخارج ليست جديدة وليست خاصة وقد قسمت الملل والنحل والطوائف والأحزاب. إنها سيف ذو حدين، فمن جهة تعطي المستنجد قوة أكبر من حجمه الطبيعي، ومن جهة أخرى تشوه علاقته بمجتمعه. ففي كل استقواء شعور لاواعي يتأرجح بين الاستعلاء والإخصاء. فالمستقوي يعرف أنه إنما لجأ لغيره لعجزه عن تحقيق أهدافه بنفسه، ولكنه يعرف أن العمل السياسي ليس نظاما للصدقات. فلكل شئ ثمن، وهذا الثمن يزيد وفقا لمنطق البورصة. وهو يخضع لاقتصاد السوق السياسي. ألا يقول المثل الفرنسي:  "كل ما هو مجاني موضوع شبهة".  

بعد مجزرة حماه، نشرت مقالة قلت فيها أن الدكتاتور حافظ الأسد قد حطم أسس النضال المدني والسياسي في سورية على الأقل لعقد من الزمن. وأننا سنرجع سنوات للخلف على صعيد مفاهيم النضال النقابية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فالطليعة المقاتلة، باختيارها للعنف والخطاب الطائفي، سمحت للدكتاتورية التوظيف المفرط لكليهما باسم تخليص البلد من الظلامية. ولا أظن أنني كنت بعيدا عن الحقيقة. خلال سنوات، كانت أطروحات المعارضة ضعيفة وبرامجها البديلة هزيلة وتنسيقها مع بعضها في غاية الضعف. لقد دفعت غاليا ثمن تحالف قطاع منها مع السلطتين السياسيتين في الأردن والعراق، ودفعت أغلى من ذلك ثمن حملات اعتقالات واسعة هشمتها.

مات الأسد سياسيا كمشروع وكتصور قبل وفاته الفيزيائية. أصبحت الدكتاتورية من العقم بحيث لا تنتج سوى الفساد والاستبداد، وأصبح السكوت عن الأمر القائم جزءا من الخوف العام. لعل غياب رأس السلطة قد حّرك ما تبقى من نبضات في جسد مجتمعي منهك. إلا أن السلطة الأمنية العسكرية لم تفعل سوى الاستفادة من الوقت لتعاود ضرب نويات التغيير في خريف دمشق الذي استحق اسمه باعتقال العشرة الأفاضل قبل عامين.

لكن العالم تغّير والمعطيات الإقليمية تبدلت، وأصبحت نقطة قوة السلطة السياسية (الشرعية الوطنية التسلطية التي منحت البلد الاستقرار وواجهت المؤامرات عليه). هذه الشرعية أصبحت عارا وشؤما على السلطة عينها. صارت السلطة مكشوفة الظهر والبطن. وما الاندفاع المجنون عند مافيات الفساد لكسب ما يمكن بأقصى سرعة، إلا التعبير عن شعورها بنهاية عهدها وضرورة نهب ما يمكن "قبل يوم القيامة"، كما يقول المثل.

لنسأل ما هي البدائل؟ هل تمكنت المعارضة من تكوين جسم أساسي صلب قادر على الانتقال من الدفاع إلى الهجوم؟ هل هي بالفعل قوة حقيقية؟ ما هي صلتها بالناس وبشكل خاص ما هو حجم تأثيرها في الشبيبة؟ هل يمكن التغيير وأقل من ربع كوادر الأحزاب السياسية المعارضة تحت سن 22 سنة، أي تماما النسبة المعاكسة للدم الشاب في حركة حماس؟ هل استعادت المعارضة الديمقراطية القدرة على المبادرة وبنت الجسور الضرورية مع الناشئة؟ هل تمت قراءة الخارطة السياسية وتحددت التحالفات وحجم النضالات المشتركة وسقفه؟ أم أن كل طرف يحاول شد الحبل لجانبه في محاولة لكسب الوجوه عينها في الوسط عينه في المسافات المتاحة عينها؟ هل تم حل المشكلات المتصلة بالعلاقة بين الأقطاب الثلاثة للتكوينات السياسية المعارضة: الحركة الوطنية الديمقراطية، الحركة الديمقراطية الكردية والحركة السياسية الإسلامية؟ لنضع النقطة الأخيرة تحت المجهر لحظات:

الشرخ الهادم مرة أخرى

في كراس أصدرته عام 1989 بعنوان "في أزمة المعارضة السورية" خصصت فقرة كبيرة، بعنوان "الشرخ الهادم"، تناولت العلاقة مع الحركة السياسية الكردية في سورية. وقد بينت أن هناك شبه قطيعة بين المعارضة الوطنية والأحزاب الكردية، وأن هذا الوضع سيخلق مسارات متباعدة لهما. وسيأتي اليوم الذي نشعر فيه بأنه من الصعب التنسيق والعمل المشترك. وكون أكراد سورية ليسوا كأكراد تركيا والعراق وإيران، أي ليس لهم أرض تسمح بكيان سياسي مستقل، سنتعرض لكل أشكال هدر الطاقات وتوزيعها وتوظيفها وعدم الوصول لصيغ مشتركة تسمح بالاستفادة من الصحوة السياسية في الأوساط الكردية. كما أكدت بأن منطق القطيعة سيعزز الاتجاهات الشوفينية في الأوساط الكردية.

ما الذي حدث منذ ذلك الوقت؟ هل تداركت المعارضة مشكلتها هذه؟ أم أنه للأسف، وبسبب الاستبسال الأمني ضد حزب العمل الشيوعي، غاب آخر شكل للحوار الأكثر جدية بين حزب وطني والحركة السياسية الكردية خارج قضبان السجن لعدة سنوات. واكتشفت المعارضة وجود قضية كردية من الوزن الثقيل باختيار الناشطين الأكراد للشارع والعاصمة من أجل إسماع صوتهم. ثم جاءت مأساة القامشلي لتوضح مدى اتساع الشرخ وكبر الهوة التي تفصل بين جمهور عبأ فراغ غياب التفاعل السوري- السوري بالحوار الكردي-الكردي داخل وخارج الحدود. لذا لا غرابة أن يكون أوجلان لفترة ما رمزا كبيرا وأن يلقى حزبه الدعم والانتساب من أكراد سوريين. وبعد اعتقاله ونجاح طالباني- البرزاني في السيطرة على كردستان العراق، كان لا بد أن تتوجه الأنظار لهما وأن يصبح التنسيق معهما متقدما، خاصة مع القطيعة بين الطالباني والسلطات السورية. انعكس كل ذلك على برنامج ونشاط بعض الأطراف السياسية الكردية التي دخلت في سوق المزايدة القومية على حساب الواقع والمعطيات الفعلية. الأمر الذي دعمه كل من يريد تحويل أكراد سورية إلى ورقة ضغط أو عنصر شغب.

لقد أدركت البشرية بعد 300 سنة من ظهور أطروحة الدولة-الأمة أن المسألة القومية لا يمكن شطبها بجرة قلم، ولكن أيضا لا يمكن حلها بمبادئ مجردة ووصفة سحرية. كان الستالينيون يوزعون كراس ستالين عن المسألة القومية وكأنه مسحة نبي. كذلك فعلت الأممية الثانية بإعطائها أوربة الغربية نموذجا. لكن هل حصل الباسك، وهم شعب بكل معنى الكلمة الاجتماعي-السياسي، على دولة مستقلة في ظل تقدم الديمقراطية الشكلية الأوربية؟ هل تم حل مشكلة الأقليات القومية في الاتحاد الأوربي؟ ألم يفشل الاتحاد السوفييتي فشلا ذريعا في حل المشكلة بمبدأ الذوبان والترحيل والقمع الإيديولوجي؟

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يعد هناك قداسة لأية حدود وأية دولة؟ بالتأكيد لا أحد يستطيع إعطاء خريطة الدول في الشرق الأوسط بعد خمسين عاما دون الخوض في أروقة الشعوذة السياسية. من هنا نؤكد أولا، أن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره هو حق غير مشروط عند كل من يتبنى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. إلا أن العمل السياسي والمدني هو ابن واقع ومعطيات. فإذا ما أراد المواطن الكردي في سورية أن يكون كائنا سياسيا، كما يقول أرسطو، عليه أن ينطلق من أن خياره الوحيد في الحقبة التي نعيشها هو التوصل إلى ورقة عمل مشتركة مع الديمقراطيين السوريين. الأمر الذي يتطلب الخروج من العقم الإيديولوجي الذي خاضت به الحركة الكردية حول مسألة الأقليات ورفضها لهذا المبدأ وانطلاقها من الخارطة الديموغرافية لا من الخارطة الجيو-سياسية. الشرعية السياسية لا تأتي من مكتب الإحصاء ولا من الدعم الخارجي. هذه الشرعية ستكون ابنة الاعتراف المتبادل في المجتمع السوري بحقوق كل مكوناته. وهذا النضال لا يتوقف على تجاوز أخطاء الحركة السياسية العربية وحسب، بل أيضا على حرص الحركة الكردية السياسية على خطاب عقلاني وحكيم في علاقتها مع الديمقراطيين السوريين. فكما أن تناذر العراق لن يتكرر، اقتباس تجربة كردستان العراق يشكل انتحارا في وضح النهار للحركة السياسية الكردية السورية. كي لا يتحول الزخم النضالي الكردي إلى عنصر تحطيم للذات والمحيط، لا بد من وقفة شجاعة من القيادات الكردية تحدد بها ماذا تريد ومع من؟ وقفة كهذه، تتطلب من الحركة السياسية العربية أن تمد يدها دون شروط للديمقراطيين الأكراد، وأن تعزز كل وسائل النضال المشترك، وأن تتبنى كل القضايا العادلة لأخوتنا الأكراد. بناء الثقة يأتي من المشاطرة في الدفاع عن الحقوق، ومن الوقوف بحزم مع العدل والحق، ومن تأصيل الحوار العربي الكردي وإنضاجه. وهنا نقول، ربّ ضارة نافعة. لعل في الحملة التي تشنها السلطات الأمنية على المواطنين الأكراد فرصة للتعاون والتنسيق من أجل مواجهة مشتركة للخيار الأمني التسلطي، والرفض العام لهذه السياسات من قبل كل أطراف المعارضة السياسية وكل نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني. ففي الممارسة وعبرها تصنع القناعات والمواقف. إن وقفة صارمة ضد العسف والقمع الواقع بحق المواطنين الأكراد قادرة برأينا على ردم الحفرة التي خلقت شرخا مصطنعا بين الشعبين وبين تعبيراتهما السياسية. 

في العلاقة مع الحركة الإسلامية السياسية

منذ نشأتها في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات (بشكل خاص في مصر والباكستان وإيران)، طرحت الحركة الإسلامية السياسية بمختلف توجهاتها وخياراتها على المجتمع السياسي والمجتمع المدني البادئ التشكل، إشكالية حقيقية. إنها تتمركز حول شكل وهدف ومدى ضرورة التقاطعات التي تنشأ عادة بين العاملين في الشأن العام: تحالفات مؤقتة أو طويلة، تشكيل جبهات وطنية، تشكيل حكومات وحدة وطنية، حوار في الدستور والأحوال الشخصية والقوانين الخاصة بعلاقة الدين بالدولة. فقد ولد المجتمع السياسي بمختلف أطيافه من لدن التجربة الأوربية واستلهم أهم معالمه منها. ولا نظن بأن ما استلهمه الشيوعي من التجربة اللينينية في التنظيم على علاتها يختلف كثيرا عما أخذه القومي أو الإسلامي من التجربة عينها. أما العلاقات المدنية الجديدة وأشكال تعبيرها المنظمة والعفوية فقد ولدت أيضا في ظل ما يمكن تسميته بالنظام الليبرالي الكولونيالي. كان مع ولوج الرأسمالية الغربية ونشوء مهن وحرف وفئات اجتماعية جديدة، خارجة بطبيعتها عن نطاق المجتمع العضوي التقليدي والدولة المستعمرة بآن معا. لعل في كتاب أبو الأعلى المودودي "نظرية الإسلام وهديه" ما يوضح حجم التقاطع بين الإيديولوجية السوفيتية  ونهج حركته في التصور السياسي الشمولي.

كان التحالف والعمل المشترك بين الحركات القومية واليسارية من جهة والحركات الإسلامية السياسية من جهة أخرى، قضية عادية قبل ولادة النظام التسلطي العربي. وقد قامت عدة تحالفات برلمانية بينهما في عدة بلدان. كما لم يكن من المستهجن الخوض في نضالات مطلبية أو تكوين قوائم انتخابية بشكل مشترك. كان علينا انتظار إعلان حالة الطوارئ في سورية وحظر النشاط السياسي المعارض لنبدأ فترة جديدة تعززت فيها الأطروحات الاستئصالية لحركة الإخوان المسلمين. ذلك ضمن أطروحة تقول بأن النظام التقدمي سيخلص المجتمع ليس فقط من الإقطاع والرأسمالية، وإنما أيضا من لسان حال هذه الطبقات السياسي، باعتبارها تمثل الرجعية والتخلف. دافع عن هذه الأطروحة، ولدوافع مختلفة، قطاعات هامة من الشيوعيين والناصريين والبعثيين. ولعل حوادث العنف التي عاشتها سورية بين 1978 و1982، والتي ارتكبت فيها السلطة السياسية أبشع المجازر في عمرها، قد عبأت قطاعا من العلمانيين وجمهورا من الأقليات غير السنية ضد حركة الإخوان المسلمين. ذلك عقب خلط الحابل بالنابل وهيمنة خطاب استئصالي مضاد عند الطليعة المقاتلة لحركة الإخوان يرد على أطروحة رفعت الأسد: "من ليس معنا فهو مع الإخوان" بالقول: "من ليس معنا فهو مع النظام" !

هذه الحقبة المؤلمة مازالت تأثيراتها على المعارضة العلمانية اليسارية. كذلك، نجحت الجبهة الوطنية التقدمية وإعلام السلطة في خلق حالة رهاب (فوبيا) من الإسلاميين "الذين سيحولون الأقليات إلى أهل ذمة ويخيرون العلويين بين الإسلام والنفي والقتل". لكن هل يمكن تناول الحركة الإسلامية السياسية كجسم ستاتيكي جامد ومتحجر لا علاقة له بالعالم والمجتمع والزمان والمكان؟ هل يمكن التعرف على السيد عقلة في أطروحات المحامي علي البيانوني؟ هل يمكن مقارنة الحركة الإسلامية في المثلين الأفغاني والتركي ؟

للأسف الشديد، مازالت هناك ممانعات هامة في الحوار والتفاعل والنضال المشترك مع حركة الإخوان المسلمين. ولهذا أكثر من سبب: حجج إيديولوجية واهية لم تعد تقنع حتى أصحابها، وحجة أخرى لا يجوز نسيانها، رفض قطاع من المعارضة الاتصال علنا بحركة الإخوان لأن السلطة تعتبرها خطا أحمر. أظن أن هذا العذر أقبح من ذنب. فتقديم تنازل مجاني للقوانين الاستثنائية التي حكمت على الحركة بالإعدام، أفرادا وتنظيما، إنما هو إقرار بهذه القوانين الاستثنائية. وليس من معنى أن نطالب بإلغائها ونحن نشاطر السلطات احترامها.

إن أي تحرك واسع يتطلب أكبر جبهة ممكنة من أجل جمهورية ديمقراطية حديثة في سورية. وهذا المطلب غير ممكن مع استئصال وإبعاد قطب أساسي من أقطاب الخارطة السياسية. من هنا ضرورة مباشرة حوارات علنية، معمقة وصريحة، بين الحركة الوطنية الديمقراطية بكل أطرافها وحركة الإخوان المسلمين. فالوضع الحالي يصب بكل المعاني في خدمة استمرار التسلط.

 

السياسي والحقوقي في حقب الانتقال

من القضايا الواجب طرحها، تحديد طبيعة العلاقة بين حركة حقوق الإنسان والحركة السياسية الديمقراطية في البلاد. ما يدفعني لطرح هذا الموضوع تعليقات البعض حول عودتي لسورية وتصريحاتي هناك وطلبهم أن ألتزم سقف حقوق الإنسان ولا أتعدى على المجال الخاص بالسياسيين. هذا الموقف يدل على أن دكتاتورية الأسد لم تنجح فقط في قتل الفضاء غير الحكومي، لكن قتلت أيضا ثقافة المنظمات غير الحكومية ودورها في ظل الدكتاتورية. أذكر بأن الرابطة السورية لحقوق الإنسان طرحت برنامجها لدمقرطة البلاد منذ 1978، أي قبل ولادة التجمع الوطني الديمقراطي. وأن الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان هي التي دعت الأحزاب والنقابات الفرنسية لتشكيل الجبهة الشعبية في الثلاثينات من القرن الماضي وليس الأحزاب السياسية الفرنسية. ففي كل المراحل الانتقالية الخطرة، كما في ظروف الانتقال من التسلط إلى الديمقراطية، يشكل الإصلاح السياسي واحدا من أهم مطالب الحركة الحقوقية. لأن هذا الإصلاح هو السبيل للخروج من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأفراد والجماعات. وبالتالي هناك تداخل كبير بين الحقوقي والسياسي.

لقد دافعنا باستمرار عن هذه الأطروحة التي ترفض تحويل منظمات حقوق الإنسان في العالم الثالث إلى منظمة لمناهضة التعذيب فقط أو الدفاع عن المعتقلين السياسيين وحسب. واعتبرنا هذه النظرة التجزيئية قراءة غربية لحقوق الإنسان. في حين استقرت القراءة العالمية منذ اجتماع طهران 1968 على مبدأ يخالفها يقوم على ترابط الحقوق والنظرة الشاملة والمتكاملة لها. وقد تبين بالتجربة عمق العلاقة بين الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في بلداننا. عادت لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية في مؤتمرها الأخير لاسمها القديم بعد تغييره في المؤتمر الذي سبقه لإدراكها التداخل المصيري بينهما. لا يمكن أن ننتزع المواطنة السياسية من ناشط حقوق الإنسان لأنه غير مرشح للانتخابات أو الوزارة كناشط، باعتبار دوره مراقبة أداء السلطات الثلاث والنضال من أجل فصل هذه السلطات واستقلال القضاء وبناء سلطة مضادة صلبة قادرة على جعل الحركة السياسية بكل ألوانها تتبنى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان كطريق لا غنى عنه للتبني الدستوري لها. من هنا، فإن تحديد المهمات لا يغني عن الارتقاء لأعلى درجات التنسيق بين الحقوقيين والديمقراطيين.

لقد ذكرت في محاضرتي في هانوفر بأن المستقبل لمن يأخذ المبادرة، وأننا نعيش حقبة لا مكان فيها لمن ينتظر مطر السماء. وأكرر هنا: لن تقدم السلطة التغيير على طبق من فضة، ستضطر إليه وترضخ له عندما يكون وليد قوة مجتمعية ورغبة مجتمعية قادرة على فرض التغيير السلمي على أجهزة تكلست وعقليات تعفنت ومناهج تفكير أكل الدهر عليها وشرب.

-------------------------------               

النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها المفكر العربي هيثم مناع على البالتوك بدعوة من غرفة سورية للعدل والحرية، مساء 17 نيسان (أبريل) 2004.