إن محاولة استكناه ظاهرة الإرهاب وتلمس الوقوف على جذورها واستبطان دوافعها العميقة تستدعي في رأينا استعراض واستقراء تجليات هذه الظاهرة. وفي ذلكم المنظور فإنه يمكن في تصورنا تصنيف الإرهاب إلى ثلاثة أنواع متمايزة ألا وهي ـ الإرهاب المتعدد الأبعاد المسكوت عنه ـ الإرهاب المضاد ـ الإرهاب الملفق.
ومن خلال تعرضنا لإشكالية الإرهاب هذه سنحاول استظهار جذور الظاهرة مبينين العوامل الكامنة وراءها. كما أننا سنتعرض لما نعتبره حلولا ملائمة لمعالجتها. ودعونا الآن نتوقف عند نوع الإرهاب الذي أسميناه: الإرهاب المتعدد الأبعاد المسكوت عنه يتجلى هذا الشكل من الإرهاب على الصعد الاقتصادية و الجييو سياسية و الفكرية و العقائدية. ـ فعلى الصعيد الاقتصادي يتمثل على وجه الخصوص في: السيطرة المطلقة للشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات على الاقتصاد العالمي و في اللبرالية المتوحشة و العولمة الساحقة و في المضاربات القمارية برؤوس أموال تبلغ أرقاما فلكية مما أدى في نهاية المطاف إلى غلاء فاحش لأسعار مصادر الطاقة، قاد بدوره إلى تردي مئات الملايين من البشر في غياهب ثقب أسود من الفقر و الحرمان و الشقاء و اليأس. و هذا النظام القائم على الجشع المفرط و الشره اللا متناهي و الأنانية العمياء و الذي يستنزف موارد الأرض بإفراط شديد حاكما على سواد البشرية الأعظم بالفاقة و الخصاصة و المرض و التخلف يعتبر في نظرنا ضربا من الإرهاب يمارس ضد الإنسانية و يهدد سلامة الكوكب الذي تعيش عليه و قابليته للبقاء. ـ و على الصعيد الثقافي و الفكري : فان البوح بالكراهية تجاه حضارة معينة ومنظومة فكرية وروحية محددة و مناصبة العداء لمرجعية ثقافية بعينها و الإعراب عن ضرورة تفكيكها و إعادة تركيبها حسب منظور معين ووفق معايير و مثل خارجة عنها ومناقضة لجوهرها، بل إن العنجهية و الصلف و الشطط في التمحور حول الذات و إرادة فرض مسلكيات و أنماط عيش معينة على شعوب و أمم لها منظوماتها الأخلاقية و الروحية و لها مقوماتها الثقافية و الحضارية، يعد في تصورنا صنفا من صنوف الإرهاب يستدعي الرفض و المقاومة. ـ و على الصعيد الروحي و العقائدي فان تسفيه أية ديانة مهما كانت و التحامل على معتقداتها و النيل من طقوسها و التعرض لأماكن عبادتها و المس من شعائرها و مقدساتها و محاولة تغويل معتنقيها و التضييق عليهم و سوء معاملتهم و الاستهزاء والتشهير بأقدس رموزهم بدافع الحقد و النكاية والرغبة في الإثارة و الاستفزاز الغير مبرر؛ هذه المسلكيات و الأيديولوجية الكامنة خلفها هي في اعتقادنا أحد تجليات الإرهاب الذي يولّد الرغبة العارمة في الرد و الانتقام. تلكم من وجهة نظرنا هي صنوف الإرهاب الممأسس و الممنهج المسكوت عنه. و هي تتكئ على رؤى فلسفية و منطلقات اديولوجية و نظريات جييواستراتيجية أحادية تتسم بالنرجسية المفرطة و التزمت الشديد و الكليانية التامة. و هذه الممارسات و المواقف و كذا الإطار النظري الذي تسترشد به و تستلهمه و الذي يعمل على شرعنتها و إعادة إنتاجها هي التي تشكل الأرضية الملائمة و البيئة المواتية لاستنبات نوع آخر من الإرهاب و تغذيته و مده بالطاقة و قوة الدفع التي يحتاجها للترعرع و الاستشراء و الاستفحال. و هذا النوع من الإرهاب هو ما يمكن تسميته ب
ـ الإرهاب المضاد و يتأتى عن ردة فعل متوقعة و طبيعية للا رهاب الاقتصادي و السياسي و الفكري و الروحي الذي أومأنا إليه آنفا،و هو الذي يشكل اليوم أكثر من أي وقت مضى الهاجس المؤرق للدول العظمى المتنفذة والراغبة في استمرارية سيطرتها و تأبيد نفوذها كما يشكل مصدر قلق لبقية دل العالم و عامل تهديد لأمنها و سلامة أراضيها و استقرارها الاجتماعي و السياسي. و إذا كان الوعي بنتائج و تداعيات الإرهاب المسكوت عنه ما زال ضعيفا نتيجة للتعتيم الإعلامي الممنهج الذي تتوخاه وسائل الإعلام المسيطر عليها من قبل المؤسسات التي أفرزتها الليبرالية المتوحشة و القوى المتنفذة التي تحكم قبضتها على العالم، فان الإرهاب المضاد و تجلياته وتداعياته هي الشغل الشاغل و الهاجس الأول لهذه القوى ومن يدور في فلكها بل و لبقية العالم بأسره. و لا ريب أن لهذا الهاجس ما يبرره ذلك أن الإرهاب المضاد ينطلق من مسلمة مفادها أن العنف الأهوج و التدمير ألعشوائيي وسياسة الأرض المحروقة و عدم التمييز بين الأخضر و اليابس عند استعمال العنف، هو الرد الملائم و الجزاء المناسب و السلوك المواتي لظلم وتعسف و جبروت قوى التسلط و الاستكبار و من يعتبر مناصرا أو ظهيرا لها. فمن وجهة نظر هكذا تفكير، فان من لم يعلن الحرب المقدسة ضد القوى المتنفذة التي أشرنا إليها سابقا ومن لم يدخل في مواجهة مباشرة معها و من لا يسعى بكل الوسائل إلى إقامة نمط الحكم الذي يعتبر مثاليا بامتياز، فأمه هاوية و هو مارق وعدو لدود يجب وكزه للقضاء عليه و تطهير الأرض من رجسه. كما يجب أن يعمل بنفس الصرامة و الإصرار على محاربة أصحاب الملل و المعتقدات و المرجعيات الأخرى باعتبارهم كفارا ليس لهم بصفتهم تلك أي حق في الوجود. و في هذا الموقف هو الآخر و في الفلسفة الكامنة و راء ه تطرف و غلو و شطط لا يتماشى أي منها مع ما ينبغي أن تتصف به الأديان السماوية من رحمة و رأفة و تسامح تستهدف هداية البشرية و طمأنينتها و إسعادها. و الظاهر أن ثمة علاقة جدلية بين الإرهاب المسكوت عنه إعلاميا و الإرهاب المضاد المحمول عليه بشدة من طرف وسائل الإعلام المعولمة مع العلم أن هذين النوعين من الإرهاب يغذي كل منهما الآخر و يذكي ناره مشكلين بذلك دوامة آخذة في الاتساع و ديناميكية تستمد طاقتها من ذاتها. وقد أدى هذا الصراع الشرس بين الإرهاب الهجومي المتعدد الأبعاد المسكوت عنه و الإرهاب المضاد الأعمى المحمول عليه إعلاميا وعسكريا، أدى ذلك إلى اعتماد سياسات الخلط و التمويه و الافتراء و المغالطة من طرف قيادات و مؤسسات و إعلام الدول المتنفذة الممارسة للإرهاب في كل أبعاده التي أومنا إليها فيما تقدم. فبرز نتيجة لهذه الإستراتيجية ما أسميناه ب:
ـ الإرهاب الملفق و هذا الشكل من الإرهاب يتمثل في الصورة المشوهة القائمة على التمويه و المغالطة و الافتراء التي تعمل القوى المتنفذة بكل ما أوتيت من قوة على إلصاقها بكل أشكال الممانعة و أنواع المقاومة و الدفاع عن الحق في الحياة و الذود عن الحرية و الكرامة و الذب عن المقومات الحضارية و الهوية و الخصوصية. و ذلك قصد تلطيخ سمعة المقاومين و النيل من مصداقيتهم و تبخيس قضيتهم و الحيلولة دون حصولهم على التعاطف و المساندة و الدعم. و من المفارقة أن توصف أعمال نضالية تقتضي تضحيات جسام وبطولات رائعة بأنها أعمال إرهابية من طرف الإعلام الغربي المعولم و الموجه من طرف مؤسسات القوى المهيمنة على العالم في حين يتم التعتيم المطبق على الاحتلال العسكري و التطهير العرقي والعقاب الجماعي والفصل العنصري والحصار والتجويع و الإبادة الجماعية و تدمير المنشآت وحرق الأخضر واليابس. بيد أن هذا التمويه و هذه المغالطة لم يعودا يخدعان أحدا و لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق الصارخة إلا بالقدر الذي يمكن به إخفاء الشمس بغربال. كما أن الخطاب الإعلامي المغالط قد فقد مصداقيته و لم يعد بمقدوره تسويق الطروحات المغلوطة و لا تسويغ السياسات التسلطية العدوانية. و من لم يفهم هذا فهو على جانب كبير من العمى وعدم التبصر.وأمام هذه الوضعية البالغة التعقيد. فماهي الحلول ـ إن كان ثمة حلول ـ التي يمكن اعتمادها لمواجهة هذه الوضعية المأزومة؟
ـ الحلول الممكنة إن الإرهاب إشكالية معقدة و متعددة الأبعاد و من ثم فان الحلول التي ينبغي أن تواجه بها لابد هي الأخرى أن تكون مركبة وشاملة كي تأخذ في الحسبان مختلف العوامل التي أدى تضافرها إلى قيام هذه الإشكالية. و هكذا فانه بات من الضروري أن يصار في المدى القصير و المتوسط على مستوى كل قطر من الأقطار العربية و الإسلامية إلى القيا م بإصلاحات و تعديلات و تغييرات جوهرية تلامس الأصعدة السياسية و لاقتصادية و الاجتماعية. ـ فعلى الصعيد السياسي ينبغي اعتماد الديمقراطية التعددية لما تكفله من حريات فردية و جماعية و لما تؤمنه من مساواة وعدالة و إشراك للجميع في اتخاذ القرار و صياغة المصير ولما تضمنه من عدم تهميش أو إقصاء لأية من الفئات و الحساسيات و الفعاليات المتواجدة على الساحة الوطنية في كل بلد بعينه. ـ و على الصعيد الاقتصادي فانه يتوجب ترشيد استخدام الموارد و المقدرات الوطنية و اعتماد الشفافية في تسيير المال العام و مراعاة العدالة و تكافؤ الفرص في توزيع موارد البلاد وإقامة آليات فعالة للمساءلة ومراقبة توظيف مقدرات البلاد،وصولا إلى القضاء على الفقر و الشعور بالإقصاء و الحرمان الذي قد يدفع إلى انزلا قات كثيرة لا تحمد عقباها. ـ و على الصعيد الاجتماعي فانه تجب المحافظة على انسجام و تماسك النسيج الاجتماعي عبر صيانة الأسرة و حماية الأطفال والارتقاء بمستوى المرأة و الحفاظ على القيم الاجتماعية والاحتراز من المسلكيات الدخيلة الهدامة التي تحبذ الانحراف و الجموح و الإباحية و التفسخ و كل أشكال الشذوذ و الانحدار الأخلاقي و ذلك سدا لكل ذريعة و اتقاء لكل انزلاق. ـ و على الصعيد الفكري فانه يجب العمل على محو الأمية بجميع أشكالها و نشر العلوم و انسياح المعارف من خلال إقامة منظومة تربوية فعالة و ناجعة ومن خلال ترقية وإعادة امتلاك تراثنا التليد و بواسطة تشجيع و دفع البحث العلمي الأساسي والتطبيقي في كل الاختصاصات سعيا إلى تهيئة الموارد البشرية المؤهلة و وصولا إلى إقامة مجتمع المعرفة الآخذ بأسباب العصرنة و الارتقاء و المسلح ضد أخطار العولمة ومطباتها و الراسخ في قيمه الدينية و الحضارية و الرا فض للظلامية والماضوية والفكر الخرافي. أما في المدى المتوسط و الطويل فانه من الضرورة بمكان أن يعمل على إقامة فضاءات إقليمية و شبه قارية متماسكة و مندمجة اقتصاديا و اجتماعيا ، واعية بمصالحها، مستعدة للتضامن و التكاتف من أجل الدفاع عن تلك المصالح في وجه قوى الهيمنة وفي منظور استفحال اللبرالية المتوحشة المهلكة و العولمة الزاحفة. على أن تصبح هذه الفضاءات المندمجة وسيلة ضغط لإسماع كلمتها مستعملة لذلك الغرض مواردها الطبيعية كأداة إقناع بضرورة احترام خصائصها الحضارية و قيمها الاجتماعية و غيريتها الثقافية و مرجعيتها الروحية. ولعله قد بات من الضروري كذلك العمل على خلق ديناميكية جماعية تستهدف تحريك الحضارات الشرقية للدفاع الجماعي عما تشترك فيه كلها من قيم و مسلكيات و أساليب عيش للوقوف في وجه التغريب الكاسح الذي يمتطي العولمة و يتكئ على اللبرالية المتوحشة من أجل السعي الحثيث إلى صب العالم كله في قوالبه الخاصة و دمغه بطابعه المميز. و بعد تقوية الجبهة الداخلية في كل بلد عربي و إسلامي على حدة من خلال إشراك وتعبئة كافة قواه الحية و بعد تفعيل الفضاءات الإقليمية و شبه القارية لجعلها تدرك الأهمية القصوى لوقوفها في خندق واحد ، عندئذ يصبح من المجدي أكثر من ذي قبل أن يصار إلى إقامة حوار مع القوى المتنفذة يعتمد مبدأ الندية و المعاملة بالمثل ويستعمل لغة المصالح. على أن يكون هذا الحوار رصينا، هادئا و مسئولا، و في نفس الوقت حازما و ضاغطا و معتمدا لتقنيات التفاوض الحديثة ومرتكزا على الحجج و المقايضات المرتبطة بالمصالح الإستراتيجية التي يفهمها الغرب جيدا و لا يقيم وزنا لما سواها. و قد لا تقوّم هذه المقاربة السليمة و المسالمة اعوجاج الدول الغربية المتنفذة التي قد استمرأت السيطرة و رامت الهيمنة . و قد لا تحملها على العدول عن جموحها في المنظور القريب. لكن لا بد في نهاية المطاف أن يتغلب المنطق و تنتصر الحكمة خاصة إذا كان التفاوض من أجل ذلك يتم من موقع قوة يرتكز على وحدة الصف و على الصرامة و الإصرار. وقد يساعد على بلوغ هذا الهدف و نيل ذلك المبتغى استصراخ القوى الخيرة في الغرب وإلا ستقواء بكل دعاة السلام و المومنين بترابط مصالح البشرية ووحدة مصيرها أنى وجدوا وحيثما كانوا.
نواكشوط 17 يوليوس(تموز) 2009.
|